جونسون.. في حكايات تشرشل وثاتشر
محمد قواص
من عاديات الأمور في بلد مثل فرنسا، أن تندلع الإضرابات العمالية والوظيفية. وسواء كانت الإضرابات تصيب بعض القطاعات أو كانت شاملة، فإن البلد يتعايش مع هذه الظاهرة بصفتها جزءا بنيويا من قماشة المجتمع وثمرة حيوية للمشهد النقابي الذي لا يخفت. لكن هذا الأمر ليس عاديا في بلد مثل بريطانيا.
أن يشل إضراب القطارات حركة المواصلات الكبرى في بريطانيا هذه الأيام فذلك حدث نادر، على الأقل في حجمه وشموليته. الحدث يعيد إنعاش حركة نقابية وحيوية عمالية أعتُقد أنها باتت من الماضي، بعد أن تمكنت رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر في الثمانينيات من “خنق” الظواهر النقابية التي كانت تعاكس الليبرالية بالطبعة الثاتشرية الشهيرة.
وفيما تدور همهمات كثيرة في لندن حول مستقبل رئيس الوزراء المحافظ الحالي، بوريس جونسون، فإنه يجوز عدم استبعاد أن تكون “حركة” القطارات غير بعيدة عن المسارات الناشطة لإبعاده عن السلطة.
وسواء كان في الأمر عبق “مؤامراتي” أو أن الإضراب، الذي قد تليه إضرابات أخرى في قطاعات مهنية متعددة، هو في سياق منطقي ناطق باسم الأزمة الاقتصادية في البلاد، فإن الأمر يُظهر تصدع “البركة” التي تمتع بها جونسون منذ انتصاره في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ليس إضراب “السكك الحديد” وما سيليه ما يعبّر عن نهاية حقبة. خسر حزب المحافظين في عدة انتخابات فرعية مقاعدهم. يوم الجمعة خسروا في هونيتن آند تيفرتن، وهي دائرة انتخابية في جنوب غرب إنجلترا، وكذلك في ويكفيلد، فقدم إثر ذلك رئيس الحزب، أوليفر دودن، استقالته.
لم يعر جونسون المتواجد في رواندا بالا إلى تلك الاستقالة، على اعتبار أن دودن ليس مواليا له ويعتبر كاميرونيا (مؤيدا لرئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون). ومع ذلك فإن للحدث أصداء داخل صفوف الحزب.
ارتفع مستوى التململ من جونسون داخل الحزب الحاكم. في 6 يونيو فاز جونسون بتصويت داخلي على الثقة، فاحتفظ بموقعه زعيما للحزب ورئيسا للوزراء.
حظي جونسون بدعم 211 نائبا، في مقابل 148 نائبا صوتوا لصالح حجب الثقة عنه. صحيح أن خسارة خصومه تمنحه حصانة ترد عنه سيوفهم لمدة عام، غير أن الأمور قد تتبدل، مما يُخضع جونسون لتصويت جديد أو تحديات أخرى.
في بريطانيا من يطيح برئيس الوزراء هو حزبه. سبق للمحافظين أن أطاحوا بمارغريت ثاتشر صانعة بريطانيا الحديثة التي نعرفها اليوم.
عرفت “المرأة الحديدية” أنها لن تتمكن من الفوز في انتخابات الحزب فاستقالت عام 1990. وسبق للمحافظين أن قلبوا حياة زعمائهم جحيما فأحرجوهم حتى أخرجوهم. ونذكر هنا دموع تيريزا ماي أمام مجلس العموم مغادرة منصبها رئيسة للوزراء في مايو 2019، وكان جونسون حينها قائدا للحملة ضدها. فلماذا لا يعيد المحافظون الكرّة مع بوريس جونسون؟.
يدرك الرجل ذلك جيدا، وهو تشرشل الهوى والطباع وبلاغة اللسان. يعرف جيدا تاريخ بريطانيا وتاريخ حزب المحافظين بالذات. لكن جونسون يمتلك منذ بروزه السياسي ملكةً عجيبة تفسر ارتقاءه السياسي منذ انتخابه عمدة لمدينة لندن، وصولا إلى تزعمه حزب المحافظين وشغله منصب رئيس الوزراء.
يعرف الحزب أيضا أن مواهب جونسون وما يملكه من كاريزما، قاد المحافظين إلى انتصارات ساحقة في انتخابات تلو انتخابات، وأن أي زعامة بديلة قد لا تصوّب مؤشر النكسات الانتخابية التي مني بها الحزب أخيرا.
ويجوز لجونسون دوما أن يلوّح ببيرق البريكسيت مذكّرا بأنه البطل. لكن بطولة تشرشل في الحرب ضد بلاده لم تنقذه من الهزيمة في انتخابات عام 1945، وقيادته للبلاد في تلك الحقبة المأساوية لم ترد عنه كيد زملائه المحافظين في عز تلك الحرب.
أحسن جونسون استغلال “قضية” الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فصادرها واحتكرها ونصّب نفسه محاميا لها متصديا لأعدائها. حتى أنه بحنكة ماكيافيلية أقنع عتاة البريكست باتفاق مع الاتحاد الأوروبي لم يقبلوه حين أتتهم رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي بأحسن منه.
أما وأن البريكست لم يعد قضية، فإن جونسون يبحث عن قضية أخرى.
ينشط كثيرا في الدفاع عن القضية الأوكرانية. بات صديق الرئيس فولوديمير زيلينسكي ويدفع باتجاه استقباله في “زيارة دولة” كاملة إلى المملكة المتحدة، بما في ذلك لقاء مع الملكة، أو أن يكون ضيف الشرف في مؤتمر حزب المحافظين في برمنغهام في أكتوبر. وفي عدم واقعية الأمر توق إلى “قضية”.
تبدو لندن بقيادته أكثر العواصم اندفاعا باتجاه كييف وضد موسكو. حتى في واشنطن نفسها قد لا تجد هذه الراديكالية في الموقف بهذا الشأن. هي خشبة خلاص أخرى يتعلق بها جونسون لرد الخناجر عنه، التي أخذت عليه أنه احتفل في عز موسم كورونا حين منع الاحتفال عن الآخرين.
من المحافظين من يقر بأن جونسون هو سبب انتصارهم، ومن يخشى بأنه قد يكون سبب هزيمتهم.