حروب العقوبات
أحمد مصطفى
رغم التهديدات القوية بشأن زيارة رئيسة مجلس النواب في الكونغرس الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، لم تقم الصين بأي عمل عسكري كما كان العالم يخشى. وتصرفت بكين بدقة محسوبة لتفادي صراع واسع بينها وبين الولايات المتحدة وربما العالم.
لجأت الصين إلى استعراض قوة عبر مناورات بالذخيرة الحية في مضيق تايوان وكل المياه المحيطة بجزيرة تايوان. ومن شأن ذلك بالطبع تعطيل الملاحة في المنطقة وبالتالي تضرر التجارة المعتمدة على الشحن البحري بسبب توقف مرور السفن في نطاق المناورات العسكرية الصينية.
وبادرت الصين بحظر تصدير الرمال الطبيعية إلى تايوان ووقف استيراد المنتجات الزراعية وغيرها، وتم فرض حظر تعامل على أكثر من 100 من الموردين التايوانيين. كما ذكرت وسائل الإعلام الصينية أن بكين فرضت حظرا أيضا على بعض شركات التكنولوجيا في تايوان. استخدمت الصين إذا سلاح العقوبات بدلا من السلاح العسكري. وهو السلاح الذي تلجأ إليه أميركا والغرب بديلا للحروب العسكرية.
هكذا فعلت أميركا مع إيران منذ عقود عبر نظام عقوبات اقتصادية عزل طهران عن العالم. وسبق أن فعلت ذلك أيضا مع دول عدة من العراق إلى فنزويلا. بل حتى في إطار حرب اقتصادية باردة مع الصين، فرضت واشنطن سلسلة من العقوبات على الصين في السنوات الماضية خاصة بعدما كبر اقتصاد الصين ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
أما حرب العقوبات الأحدث والأشد قسوة فهي تلك التي شنتها أميركا وحلفائها الغربيين على روسيا مع بدء حرب الأخيرة في أوكرانيا. وهي العقوبات التي لم يسلم العالم كله تقريبا من تبعاتها مع تفاقم ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة التي ترتفع أصلا منذ النصف الثاني من العام الماضي.
قد لا تكون حروب العقوبات جديدة، إذ عرفها البشر منذ الأزل. وفي الحروب القديمة كان حصار المدن والمناطق بقصد خنقها اقتصاديا ودفعها للاستسلام دون قتال تكتيك شائع. لكن مع زيادة أعداد البشر على الأرض وتعقد حياتهم أكثر فأكثر تطور سلاح الحصار الاقتصادي عبر العقوبات ليصبح وسيلة مكتملة حتى دون الحاجة إلى جيوش على الأرض.
بل إن العقوبات الاقتصادية أصبحت حربا قائمة بذاتها، فيما تسمى الآن الحروب التجارية والاقتصادية بين القوى والتكتلات المختلفة. الغريب أنه مع تطور العولمة، بمعنى زيادة الاعتماد المتبادل بين الدول والمناطق حول العالم، زادت أهمية وخطورة حروب العقوبات وتأثيرها الذي يتجاوز من يفرضها ومن يتعرض لها ليطال العالم كله تقريبا.
فالعقوبات التي تفرضها أميركا والغرب حاليا على روسيا لم تؤثر في الاقتصاد الروسي فقط، بل طالت أيضا اقتصاد الدول المشاركة في العقوبات ونحو نصف العالم من الدول غير المشاركة في تلك العقوبات. كل ذلك نتيجة تداعيات ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، حيث تعد روسيا أكبر مصدر للغاز الطبيعي وللقمح وللأسمدة وغيرها حول العالم. وبالتالي أضافت العقوبات على روسيا إلى عبء الارتفاع الصاروخي للتضخم حول العالم مع زيادة السعار ولجوء البنوك المركزية لرفع سعر الفائدة لوقف ارتفاع التضخم ما أدى إلى زيادة أعباء خدمة الدين على ميزانيات الحكومات والضغط على مستوى معيشة الأسر الأفراد في كل الدول تقريبا.
وفي حال تصاعد الصراع بين الصين وأميركا والغرب فإن حزم عقوبات أميركية وغربية على الصين قد تزيد الوضع العالمي تدهورا وتعمق الركود الاقتصادي الذي أصبح على أبواب اقتصاد كثير من الدول الكبرى. لأنه إذا اعتبرنا حرب العقوبات على روسيا مجرد “بروفة” لحرب عقوبات على الصين، فيمكن تخيل الضرر الذي سيصيب العالم كله من بدء فرض عقوبات على الصين.
لا يتعلق الأمر حينئذ بالصين وأميركا والغرب فقط، بل سيكون الضرر الأكبر على بقية دول العالم خاصة في جنوب شرق آسيا. وسيكون ارتفاع معدلات التضخم اضعاف ما نشهده الآن نتيجة الحرب في أوكرانيا. فالشركات الكبرى التي نقلت منذ سنين مراكز تصنيعها إلى الصين للاستفادة من العمالة الرخيصة وتشحن منتجاتها لتبيعها في أنحاء العالم ستعاني بشدة. كما ستتضرر التجارة العالمية بشكل هائل، وفي كل شيء من شحن السلع والبضائع من الصين إلى استيراد الطاقة وغيرها إلى الصين لتدور مصانعها.
فهل يمكن للعالم أن يتحمل حرب عقوبات مع الصين؟ وهو يمر الآن بحرب عقوبات أخرى مع روسيا؟ رغم كل التبعات المتوقعة، فمن غير المستبعد أن تكون حرب العقوبات على الصين قد بدأت بالفعل. والأرجح أن تظل حرب عقوبات أقرب للحرب الباردة التجارية والاقتصادية، وليست حرب عقوبات عالمية. أولا لأن من غير المضمون أن تشارك كل دول العالم في تلك العقوبات إذا ارادت أميركا ومعها حلفاءها الغربيين فرضها على بكين. وثانيا لأن حرب عقوبات شاملة ستعني بالفعل “حربا عالمية” اقتصاديا وتجاريا وهو ما لن يتحمله الاقتصاد العالمي الهش والمتباطئ أصلا. أما الأرجح فهو أن حروب العقوبات ستحل تدريجيا محل الحروب التقليدية وغير التقليدية بمعناها العسكري. ويصبح الاقتصاد أكثر فأكثر “امتدادا للسياسة” كمعنى مقولة كلاوتسفيتس الشهيرة في كتابه الأشهر “الحرب” عن العسكرية والدبلوماسية.