الإضرابات العمالية تقض مضاجع الحكومتين الفرنسية والبريطانية
مئات الآلاف يحتجون في الشوارع بعد فشل المفاوضات مع النقابات
تظاهر مئات آلاف الفرنسيين بعد ظهر اليوم الثلاثاء في باريس، يتقدمهم رؤساء النقابات الرئيسية، احتجاجاً على مشروع إصلاح نظام التقاعد الذي تنوي الحكومة الفرنسية إقراره وترفضه القطاعات المهنية والنقابية المختلفة، فيما تئن الحكومة البريطانية تحت وطأة الإضرابات المستمرة، حيث تشهد المملكة المتحدة بشكل يومي إضراب في واحد من سبعة قطاعات عمالية صوَّت موظفيها عبر نقاباتهم للاحتجاج على تدني مستوى دخلهم مقابل صعود التضخم والأسعار.
وشهدت عدة قطاعات في فرنسا كالنقل العمومي والمدارس وإنتاج الكهرباء والمصافي النفطية ووسائل إعلام حكومية الثلاثاء شللاً بعد إقرار يوم ثان من التعبئة الشعبية ضد مشروع قرار حكومي لرفع سن التقاعد إلى 64 عاما عوضا عن 62 عاما. فيما
وتسبب الإضراب الثاني على مستوى فرنسا في تعطيل إنتاج الكهرباء وحركة النقل العام والمدارس الثلاثاء، في رد فعل عنيف على خطط الحكومة الرامية لرفع سن التقاعد.
وقال الاتحاد العام للعمال (سي.جي.تي) إن نصف مليون شخص تظاهروا في العاصمة الفرنسية وحدها.
“إصلاح نظام التقاعد: العمل لفترة أطول، كلّا”
وانطلقت المسيرة عند الساعة 14,15 (13,15 ت غ) بقيادة رؤساء النقابات (الاتحاد الديموقراطي الفرنسي للعمل، الاتحاد العام للعمال، نقابة القوى العاملة، الاتحاد الفرنسي للكوادر المهنية – الاتحاد العام للكوادر المهنية، الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين، الاتحاد الوطني للنقابات المستقلة، اتحاد متضامنون، الاتحاد النقابي الموحد) وساروا خلف لافتة كُتب عليها “إصلاح نظام التقاعد: العمل لفترة أطول، كلّا”.
وأشاد جميعهم بمشاركة أكبر من تلك التي سُجلت في أول يوم تعبئة في 19 كانون الثاني/يناير عندما نزل إلى الشوارع 1,12 مليون شخص بحسب السلطات، فيما أكد المنظمون آنذاك مشارك أكثر من مليونَي شخص (بين 80 و400 ألف في العاصمة).
وقال الأمين العام لـ “الاتحاد الديموقراطي الفرنسي للعمل” لوران بيرجيه إن “هناك أناسًا أكثر من المرة الماضية”.
بدوره، رأى الأمين العام لـ”الاتحاد العام للعمال” فيليب مارتينيز أن الأعداد “أكبر من تلك التي كانت في 19” كانون الثاني/يناير.
وأوضح الأمين العام لنقابة “القوى العاملة” فريديريك سويو أن التحرك “سدّ منيع” أمام رفع سنّ التقاعد القانونية من 62 إلى 64 عامًا، متوقعًا أن “وتيرة التعبئة ستتسارع”.
من جانبه، اعتبر الأمين العام لـ”الاتحاد الفرنسي للكوادر المهنية – الاتحاد العام للمدراء” فرانسوا اوميريل أن “هذا الأمر مشجع، ويعني أن الحركة تترسخ”.
ورأت الأمينة العامة لـ “الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين” باسكال كوتون في التحرك دليلًا على أن “التفسيرات التي قدّمناها لهذا الإصلاح غير المنصف، قد سُمعت”.
وتشارك شخصيات سياسية يسارية أيضا في التظاهرة بينها الشيوعي فابيان روسيل وعضوان في حزب “فرنسا الأبية” (اليساري الراديكالي المعارض) فرانسوا روفان وكليمانتين أوتان والاشتراكيان أوليفييه فور وآن إيدالغو إضافة إلى شخصيات مؤيدة للقضايا البيئية يانيك جادو ومارين توندولييه وساندرين روسو.
نصف المعلمين يضربون عن العمل
وعلى مستوى إضراب قطاع النقل، تم تشغيل واحد فقط من كل ثلاثة من قطارات تي.جي.في عالية السرعة الثلاثاء وعدد أقل من القطارات المحلية والإقليمية، مع تعطيل مترو باريس بشدة.
وقالت نقابة معلمي المدارس الابتدائية إن نصف المعلمين سيضربون عن العمل، وبالمثل يضرب موظفو المصافي النفطية والعاملون في قطاعات أخرى من بينها محطات البث الحكومية التي بثت الموسيقى بدلا من البرامج الإخبارية.
وانخفضت إمدادات الطاقة الفرنسية 4.4 بالمئة، أو 2.9 جيجاوات، إذ انضم العاملون في المفاعلات النووية ومحطات الطاقة الحرارية إلى الإضراب، وفقا لبيانات من مجموعة إي.دي.إف.
وقالت شركة توتال إنرجي إنه لا يتم تسليم منتجات بترولية من مواقعها في فرنسا بسبب الإضراب، مضيفة أن محطات الوقود تم إمدادها بالكامل ويجري تلبية احتياجات العملاء.
وتظهر استطلاعات الرأي أن معظم الفرنسيين يعارضون الإصلاح، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته يعتزمون التمسك بموقفهم. وقال ماكرون الإثنين إن الإصلاح “ضروري” لضمان استمرار عمل نظام المعاشات التقاعدية.
وقال لوك فار، الأمين العام للاتحاد الوطني للنقابات المستقلة لموظفي الخدمة المدنية: “هذا الإصلاح غير عادل وقاس… رفع سن التقاعد إلى 64 يمثل تراجعا اجتماعيا”.
وتقول تقديرات وزارة العمل إن رفع سن التقاعد بمقدار عامين وتمديد فترة الدفع من شأنه أن يدر 17.7 مليار يورو (19.18 مليار دولار) من المساهمات التقاعدية السنوية، مما يسمح للنظام بتحقيق التوازن بحلول عام 2027.
وتقول النقابات إن هناك سبلا أخرى لتحقيق ذلك، مثل فرض ضرائب على فاحشي الثراء أو مطالبة أصحاب العمل أو المتقاعدين الميسورين بالمساهمة بشكل أكبر.
الحكومة البريطانية تحت وطأة الإضرابات
وفي بريطانيا بات التعليم أحدث القطاعات التي التحقت بركب الإضرابات، إذ بحثت نقابات القطاع مع الحكومة رفع أجور المدرسين من دون أن تجد ما يرضيها، فكان القرار إعلان إضراب لستة أيام متقطعة تمتد بين مطلع شهر فبراير إلى منتصف مارس المقبل، وتتوزع على إنجلترا وويلز واسكتلندا.
تآكل أجور المعلمين نتيجة التضخم وعامل الزمن، هو ما استدعى الإضراب في القطاع، إذ تتباين نسبة التراجع بين النقابات ومراكز الإحصاء المختصة، ولكنها بأي حال لا تقل عن 10%. أما الحكومة، ومثل كل مرة، فترفض أي زيادة على الرواتب تواكب تضخماً تخطط لتقليصه إلى النصف بحلول نهاية العام الجاري.
حراك مماثل لقطاعات عدة
إضراب المعلمين يبدأ من إنجلترا مطلع فبراير، ويتزامن مع حراك مماثل لقطاعات عدة. وخلال الشهر ذاته، تشهد البلاد موجة مماثلة تقريباً لما حدث في ديسمبر الماضي. وكل يوم تقريباً هناك إضراب في واحد من سبعة قطاعات صوَّت موظفيها عبر نقاباتهم للاحتجاج على تدني مستوى دخلهم مقابل صعود التضخم والأسعار.
وتشير تقديرات إلى أن موجة الإضرابات في المملكة المتحدة قد تتسع خلال العام الجاري. فمشكلة تراجع قيمة رواتب القطاع العام تمتد إلى مؤسسات عديدة. وثمة نقابات واتحادات شرعت بدعوة أعضائها إلى التصويت على إعلان إضراب في مجال تخصصهم. وخاصة مع استمرار ضبابية خطط الحكومة للإنفاق في 2023.
إغلاق نصف مدارس إنجلترا
ويشرف على إضراب المدرسين في بريطانيا أكبر اتحاد تعليمي على مستوى قارة أوروبا. ويضم الاتحاد الوطني للتعليم أكثر من 400 ألف عضو. وعلى الرغم من أنه ينتظر زعيماً جديداً خلال أيام، ولكن جميع المرشحين يؤكدون حق المدرسين في مطالب زيادة أجورهم والحصول على تقدير مالي أكبر.
وتشير التقديرات إلى احتمال إغلاق نصف مدارس إنجلترا الحكومية في أول أيام الإضراب المنتظر، الذي يشارك فيه 100 ألف مدرس، ما يزيد على 34 ألفاً منهم انضموا إلى الاتحاد الوطني للتعليم حديثاً، من أجل الانخراط في هذا الحراك. أما المطلب، فهو واحد لدى جميع القطاعات، ويتمثل بـ”زيادة الأجور” لمواكبة التضخم المرتفع.
الحكومة حذرت من تداعيات الإضراب على العملية التعليمية. وقال وزير الخزانة جيريمي هانت، إن إلحاق الضرر بتعليم الأطفال واليافعين “يهدد مستقبل البلاد، في وقت نحتاج إلى زيادة مهارات أبنائنا وتحسين إنتاجية عملهم”، مشدداً على أن المؤسسات الحكومية بكل أنواعها، لن تحصل على أموال إضافية من أجل زيادة أجور الموظفين، وإنما ستضطر إلى تقليص النفقات في جوانب من عملها لصالح أشياء أخرى.
تداعيات الإضراب على التعليم
والتقى ممثلون عن الاتحاد الوطني للتعليم مع الحكومة في مطلع الأسبوع الجاري، لمناقشة مطالب المدرسين، ما وصف بمحادثات اللحظة الأخيرة لمنع الإضراب. لكن لم تأتِ النتائج بما يشتهي الطرفان رغم أن وزيرة التعليم جيليان كيجان، تُبدي تفاؤلاً بحل الأزمة، التي تثير قلق الآباء والأمهات إزاء تعليم أولادهم من جهة، وإزاء عجزهم عن المضي إلى أعمالهم ووظائفهم عندما تغلق المدارس ويبقى الأولاد في المنازل.
كيجان طالبت النقابات بإلزام المعلمين والمعلمات بإخطار إدارات المدارس في حال رغبتهم في الإضراب، لعل هذا الإجراء يساعد المدراء على وضع ترتيبات تمنع إغلاق المدارس بشكل كامل. مع الأخذ بعين الاعتبار أن القانون يمنح مدراء المدارس حق تقرير الحاجة لإغلاق المدرسة من عدمه في هذه الحالات.
الأمين العام المشترك للاتحاد الوطني للتعليم، ماري بوستيد، تقول إن الاتحاد منفتح جداً على الحوار مع الحكومة في كل زمان ومكان. ولكن “يبدو أن الوزارة لا تبدي جدية كافية إزاء مطالب المدرسين. وتضيف: “ربما تعتقد الوزارة أن تخويف المعلمين والأهالي من تداعيات الإضراب على التعليم ومستقبل الأطفال، سيؤدي إلى وقفنا لهذا الحراك”.
وتعرض الحكومة منح المدرسين أصحاب الخدمة الطويلة زيادة في متوسط الأجور بنحو 5% العام المقبل. أما المعلمين الجدد الذين انضموا للقطاع حديثاً، فقد يحصلوا على زيادة بنسبة 16% خلال العامين المقبلين. أما رد الهيئة فجاء أن “معدل التضخم لا يجعل العرض الحكومي مقنعاً تحت أي ظرف”.
تآكل الرواتب
وفقًا لمعهد الدراسات المالية في لندن، شهد كبار المعلمين انخفاضاً فعلياً في رواتبهم بمقدار 6600 جنيه إسترليني منذ 2010. ويقدر المعهد تراجع رواتب أفراد هذه الفئة بنسبة تقارب 14% خلال ما يزيد على 12 سنة. أما المدرسين حديثي العهد فتآكلت رواتبهم وفقاً للمعهد، بنسبة تتراوح بين 5 إلى 6% كحد أقصى.
ثمة تباين بين نسب المعهد ومصادر أخرى كاتحاد التعليم الوطني الذي يقول إن التضخم وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، كلها عوامل أثرت على رواتب المدرسين خلال العقد الثاني من الألفية الجديدة، وقلصتها بنسبة تصل إلى أكثر من 20% في بعض الحالات، ما “شكَّل ضغطاً كبيراً على أداء المعلمين وإمكانات التعليم”.
الباحث في معهد الدراسات المالية بين كرازنكو، أرجع تباين التقديرات بشأن نسبة تآكل رواتب المعلمين إلى اختلاف طرق احتساب معدل التضخم في البلاد، منوهاً إلى وجود آليات عدة لاحتسابه، قائلاً إنه “مع كل طريقة تتغير تجليات صعود الأسعار أو هبوطها على كٌلفة العيشة، وبالتالي على القدرة الشرائية للموظفين”.
ولفت كرازنكو في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية، إلى أن 8% من المعلمين تركوا وظائفهم في المدارس الحكومية لإنجلترا عام 2021. وهي نسبة أقل من 9 إلى 10% التي سادت بين عامي 2015 و2019. وهذا ما يفسره الوضع الاقتصادي الصعب الذي عرفته البلاد خلال الوباء. أما في عام 2022 فعادت نسبة مغادرة المدرسين للمدارس الحكومية إلى الصعود مرة أخرى بسبب تآكل أجور القطاع العام.
قطاعات مختلفة تنضم للإضرابات
ونتيجة لفشل مفاوضات، الاثنين، بين اتحاد التعليم والحكومة، بقيت أجندة إضراب المدرسين على حالها. وانضم المعلمون إلى سائقي القطارات والحافلات وموظفي الخدمة المدنية وأساتذة الجامعات وحراس الأمن وغيرهم، للمشاركة مطلع فبراير، في أكبر يوم للإضراب الصناعي تعرفه المملكة المتحدة منذ أكثر من عقد.
ووصفت وسائل إعلام محلية الإضراب المرتقب الأربعاء، الذي يوافق الأول من فبراير 2023، بـ”يوم الإضراب العظيم”. كما أطلقت التحذيرات في جميع المؤسسات الخاصة والعامة إزاء صعوبة الوصول إلى مقرات العمل في القطاعات غير المشاركة في هذا الحراك. وأتيحت فرصة البقاء في المنزل للذين تسمح وظائفهم بإتمام مهامهم اليومية عن بعد.
وبحسب المحلل الاقتصادي اسلم بوسلان، تزداد كلفة الإضرابات مع الوقت على الحكومة وشركات القطاع الخاص والموظفين في القطاعات غير المُضربة. ويكشف بوسلان في حديث مع “الشرق” أن الخسارة قد تتضاعف على الحكومة إذا قبلت بشروط النقابات لحل الأزمة في نهاية المطاف، رغم أن هذا أمر مستبعد، على حد رأيه.
ويقول وزير السكك الحديدية في حكومة حزب المحافظين هيو ميرمان، إن الإضرابات في القطاع كلفت الاقتصاد البريطاني حتى الآن أكثر من مليار جنيه استرليني، وكان من الممكن أن تكون تكلفة تسوية النزاع مع النقابات المعنية، حول الأجور وظروف العمل “أقل بنسبة ملحوظة” قبل أشهر مقارنةً بالحلول والتسويات المتاحة اليوم.
تمدد مساحة الإضرابات قريبة
ويقول الباحث في الشؤون البريطانية جوناثان ليز، إن سلسلة الإضرابات التي تعم البلاد، لن تتوقف عند موظفي القطاعات السبعة الحالية. فهناك المزيد من المهن والتخصصات التي تدرس نقاباتها واتحاداتها خيارات الإضراب. وهي على وشك أن تعلن انضمامها إلى الحراك الذي يحرج الحكومة مع استمرار مشكلة التضخم المرتفع.
ويشير ليز إلى أن الحكومة ستواصل شراء الوقت في التفاوض مع القطاعات المختلفة، إلى حين إصدار البرلمان للقوانين الجديدة التي تقيد النقابات والاتحادات بالحفاظ على الحد الأدنى من العاملين في القطاع خلال الإضراب. وهذا سيفقد الحراك ثقله الحقيقي، ويحد من تأثيره على المفاوضات مع الحكومة.
ويبدو أن قراءة ليز لتمدد مساحة الإضرابات قريبة من الواقع. حيث أعلن اتحاد العاملين في وكالات الإطفاء، مساء الاثنين الماضي، أنه يعد لعدة أيام من الإضرابات في القطاع بعد أن وافق 80% من أعضائه على ذلك خلال تصويت عام، لافتاً إلى أنه لن يعلن موعداً لأيام الإضراب، إلا بعد مشاورات داخلية واسعة يجريها قريباً.
ولفت اتحاد موظفي الإطفاء إلى أنه منذ 2010، شهد أعضاؤه تراجعاً في قيمة أجورهم بنسبة 12%. كما تم إلغاء واحدة من كل 5 وظائف في القطاع خلال ذات الفترة. وقال أمين عام الاتحاد مات وراك، “إن الحكومة بحاجة إلى أن تستيقظ وتدرك مستوى الغضب بين موظفيها بشأن انخفاض الأجور الحقيقية في خدمة الإطفاء”.