الإضرابات العمالية تهزّ الحكومة البريطانية وسوناك يبحث عن “عصاً سحرية”
مئات الآلاف من المعلمين وموظفي القطاع العام وسائقي القطارات والمحاضرين الجامعيين يحتجّون على تدني الأجور وسوء الوضع المعيشي
في أكبر تحدّ للحكومة البريطانية التي تهدد النقابات بتقييد حرية تنظيم الإضرابات، شهدت المملكة المتحدة اليوم الأربعاء، واحد من أكبر الإضرابات العمالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، شارك فيه مئات الآلاف من المعلمين وموظفي القطاع العام وسائقي القطارات والمحاضرين الجامعيين في بريطانيا، احتجاجاً على تدني الأجور والأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، فيما تمنى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، أن يكون لديه عصا سحرية لتحقيق مطالب العاملين، في أخطر مؤشر على عجز الحكومة عن توفير الحلول الاقتصادية العملية.
ويقدر قادة النقابات عدد من سيشاركون في التحرك الذي يطال قطاعات التعليم المدرسي والجامعي وعمال السكك الحديد بحوالى 500 ألف شخص، وذلك عشية مرور 100 يوم على تشكيل حكومة ريشي سوناك المحافظة، فيما حذّر مؤتمر اتحاد العمال، من أنه سيكون “أكبر يوم إضرابات منذ عام 1980.
وشارك في إضراب الأربعاء، نحو 300 ألف معلم، ونحو 100 ألف موظف حكومي من 124 إدارة حكومية، وقوات حرس الحدود، والمتاحف، ووكالات حكومية أخرى، ونحو 70 ألفاً من المحاضرين الجامعيين، وآلاف العاملين في قطاع السكك الحديدية، على خلفية نزاع بشأن الوظائف والأجور، حسبما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وستؤثر الإضرابات على المواصلات والمدارس والاقتصاد بأسره وستطال التداعيات كافة البريطانيين حتى غير المضربين منهم، والمضطرين للبقاء في المنزل لرعاية أطفالهم أو بسبب عدم قدرتهم على الذهاب إلى مكان عملهم.
وفي محطة “فارينجتون” للقطارات في وسط لندن، يقول كثيرون إنهم قرروا العمل من منازلهم أو حتى أخذ يوم إجازة، لتجنّب مواجهة صعوبات.
مشروع قانون لتقييد الإضرابات
وشوهد أعضاء مضربون من الاتحاد الوطني للتعليم (NEU)، وأنصاره في طريقهم إلى بداية مسيرة من بورتلاند بليس إلى مقر وزارة التعليم في وستمنستر، احتجاجاً على خطط حكومية مثيرة للجدل لمشروع قانون لتقييد الإضرابات.
وسيجري تنظيم مسيرات مناهضة للقانون في بعض القطاعات، وهو اقتراح يقول معارضون إنه سيزيد من توتر العلاقات بين النقابات والموظفين من جانب وجهات الأعمال والحكومة من جانب آخر.
وقال بول نواك الأمين العام لـ”مؤتمر نقابات العمال” الذي يضم تحت مظلته عدداً من النقابات إنه “بعد سنوات من انخفاض الأجور القاسي، شهد الممرضون والمعلمون والملايين من الموظفين الحكوميين الآخرين تدهوراً في مستوياتهم المعيشية ويتأهبون ليعانوا من المزيد من البؤس بسبب الأجور”.
وأضاف: “بدلاً من التخطيط لطرق جديدة لمهاجمة الحق في الإضراب، يجب على الوزراء رفع الرواتب على مستوى القطاعات الاقتصادية، مع البدء بزيادة مناسبة لرواتب العاملين في القطاع العام”.
آلاف المدارس مغلقة
وأغلقت آلاف المدارس تلبية لدعوة “الاتحاد الوطني للتعليم”، ما أجبر بعض الأهالي على البقاء في منازلهم للاهتمام بأطفالهم، في اليوم الأول من 7 أيام من إضرابات خطط لها “الاتحاد الوطني للتعليم”، بحسب وكالة “فرانس برس”.
ونشرت عدة مجموعات أهالي تلامذة بياناً مشتركاً عبّرت فيه عن “دعمها” للحركة الاجتماعية ولافتة إلى “نتائج سنوات من نقص التمويل” في المدارس.
وقالت وزيرة التربية جيليان كيجن إنها تشعر “بخيبة أمل” وإنها “قلقة جداً” بشأن هذه الحركة، معتبرة أنه لا يمكن منح الزيادات المطلوبة للأجور.
وأضافت صباح الأربعاء عبر شبكة “سكاي نيوز” البريطانية: “قلنا إننا سوف ندرس الرواتب المستقبلية وسوف ننظر في عبء العمل والمرونة التي يطلبها المعلمون”، بالإضافة إلى المشاكل في توظيف الأساتذة.
واعتبر ممثلو المعلّمين أنه “من المناسب تماماً” ألا يكشف الأساتذة أو المعلمون عن نواياهم مسبقاً لمدراء المؤسسات.
وقال الأمينان العامان لـ”الاتحاد الوطني للتعليم” ماري بوستيد وكيفن كورتني في بيان، إن “الحكومة تمتنع عن مناقشة أسباب الإضراب”. واعتبرا أن عدم زيادة الرواتب يؤدي إلى مشاكل في التوظيف وفي الاحتفاظ بالموظفين، وهو ما “يعطل تعليم الأطفال كل يوم”.
الموقف المخزي للحكومة
من جانبه، قال وزير التعليم في حكومة ويلز جيريمي مايلز إن المسؤولية عن الإضرابات تقع على عاتق حكومة المملكة المتحدة.
وأضاف مايلز في تصريحات لراديو “بي بي سي ويلز”: “أريد طمأنة التلاميذ وأولياء أمورهم بأننا نعمل مع شركائنا لتسوية النزاع”، مضيفاً: “لا نريد إغلاق المدارس، لذا فإننا نبذل قصارى جهدنا”.
ومضى قائلاً: “ثمة قيود حقيقية للغاية على موازنة الحكومة الويلزية بسبب الموقف المخزي بصراحة للحكومة البريطانية التي لا توفر التمويل الكافي في جميع أنحاء المملكة المتحدة للخدمات العامة”.
بينما قالت أكبر نقابة للمعلمين إن رسالة من وزيرة التعليم إلى مديري المدارس تذكرهم بعدم دفع رواتب المعلمين المضربين تبدو “سخيفة”.
وقالت الأمينة العامة لاتحاد التعليم الوطني ماري بوستيد، خارج مدرسة الأسقف توماس جرانت في ستريثام، جنوب لندن: “حسناً، يبدو لي أن (وزيرة التعليم البريطانية) جيليان كيجان تتقلب بين القول إنها تريد التفاوض ثم ممارسة السياسة”.
وأضافت: “إنها ترسل لنا رسائل صباح السبت أو الجمعة الساعة 4:55، أو في اللحظة الأخيرة. لم أكن أعرف أنها أرسلت تلك الرسالة إلى المدارس. إنها مجرد رسالة استفزازية”.
تأهب الجيش
وتقول الحكومة إنه سيتم اتخاذ إجراءات “للتخفيف” من تبعات الإضرابات، لكن سيكون لها تأثير كبير، كما يتأهب الجيش لتقديم المساعدة على الحدود.
وقال متحدث باسم رئيس الوزراء ريشي سوناك للصحافيين: “نحن على ثقة بأن هذا سيعطل حياة الناس، ولهذا نعتقد أن المفاوضات وليس الإضراب، هي النهج الصحيح”.
واتخذت حكومة سوناك نهجاً صارماً حتى الآن مع إضرابات القطاع العام، قائلة إن الاستسلام لمطالب الزيادات الكبيرة في الأجور لن يؤدي سوى إلى زيادة التضخم.
ورغم إضراب حرس الحدود، كان مطار هيثرو في لندن “يعمل بالكامل”، صباح الأربعاء، وفق متحدث باسم إدارة المطار، مشيراً إلى نشر الجنود لتعويض غياب المضربين.
العصا السحرية
وكان سوناك قال، الاثنين، خلال زيارة لعاملين في قطاع الصحة يخططون لمواصلة إضرابهم في الأيام المقبلة “لا أريد إلّا (…) أن يكون لدي عصا سحرية لأدفع لكم جميعكم أكثر”.
غير أنه يعتبر أيضاً أن رفع الأجور سيساهم في زيادة التضخم وتراجع المالية العامة التي تواجه صعوبات منذ بداية جائحة كورونا وأزمة الطاقة.
مع ذلك، عبر اتحاد السكك الحديد عن الأمل في تحقيق تقدم، مشيراً في بيان، الثلاثاء، إلى أنه تلقى “عرضين رسميين” أكثر أهمية من العروض السابقة، تدرسهما حالياً لجنته التنفيذية.
ومن المقرر تنظيم إضراب جديد في قطاع السكك الحديد اعتباراً من الجمعة. وسينظم ممرضون ومسعفون وموظفو اتصالات الطوارئ وغيرهم من العاملين في قطاع الرعاية الصحية مزيداً من الإضرابات.
كما صوّتت فرق الإطفاء هذا الأسبوع لصالح تنظيم إضراب على مستوى البلاد، هو الأول من نوعه خلال 20 عاماً.
التضخم والأجور
وشهدت بريطانيا موجة من الإضرابات بداية من العاملين في قطاعي الصحة والنقل إلى العاملين في مستودعات “أمازون” وموظفي البريد الملكي، مع زيادة معدل التضخم إلى أكثر من 10.5% في أعلى مستوى منذ أربعة عقود.
ويطالب المضربون في مختلف القطاعات بزيادات في الأجور أعلى من معدلات التضخم لتغطية تكاليف الغذاء والطاقة، التي يقولون إنها تزيد الضغوط الحادة على ملايين البريطانيين وتشعرهم بغياب التقدير، إذ لا تكفي للوفاء باحتياجاتهم.
ويحتج المضربون أيضاً على ظروف العمل ونظام التقاعد وسعي الحكومة إلى الحدّ من الحق في الإضراب.
وتشير التوقعات الأخيرة لصندوق النقد الدولي إلى أن المملكة المتحدة ستكون هذا العام الاقتصاد الكبير الوحيد الذي سيعاني من ركود، مع انكماش بنسبة 0,6% من إجمالي الناتج المحلي.
وحتى الآن، لم يتضرر الاقتصاد بشدة من الإضرابات، إذ بلغت تكلفة الإضرابات في الأشهر الثمانية حتى يناير، وفقاً لتقديرات شركة للاستشارات نحو 1.7 مليار جنيه إسترليني (2.09 مليار دولار) أو نحو 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع.
وقدرت الشركة الخسائر المتوقعة لإضرابات المعلمين بنحو 20 مليون جنيه إسترليني في اليوم.
خسائر بالملايين
وأظهرت بيانات شركة التنبؤ الاقتصادي الرائدة “سيبر” CEBR أن التكلفة الإجمالية للإضرابات الجماعية، الأربعاء، في قطاعات السكك الحديدية والتعليم والخدمة المدنية ستكون 68 مليون جنيه إسترليني.
وقال متحدث باسم الشركة التي تدرس النماذج الاقتصادية لشبكة “سكاي نيوز”: “نقدر أن التكلفة المباشرة لهذا الإجراء (النابعة من أيام العمل الضائعة بين المضربين) ستكون 68 مليون جنيه إسترليني في يوم واحد فقط”.
وأضاف: “علاوة على ذلك، نقدر أن الغياب عن العمل بين أولئك الذين يعتمدون على شبكة القطارات للانتقال إلى مكان عملهم، والذين لا يستطيعون العمل من المنزل، سيؤدي إلى خسارة 26 مليون جنيه إسترليني للاقتصاد غداً”.
وأضافت الشركة أن الأرقام (مجتمعة 94 مليون جنيه إسترليني) تمثل تقديراً منخفضاً، لأنها لا ترصد التأثيرات مثل أخذ الآباء إجازة من العمل أثناء إغلاق المدارس، وانخفاض مبيعات التجزئة، من بين أمور أخرى.
وفي الأشهر الثمانية التي سبقت إضراب الأربعاء، قدرت الشركة أن أيام العمل الضائعة مباشرة بسبب الإضراب بجميع أنواعه كلّفت الاقتصاد 1.9 مليار جنيه إسترليني.
والحركة الاحتجاجية مستمرة منذ الربيع. ففي نوفمبر وحده، سجل مكتب الإحصاء الوطني 467 ألف يوم عمل ضائع بسبب الإضرابات، وهو رقم قياسي منذ العام 2011. ومنذ يونيو 2022، سجل مكتب الإحصاء 1.6 مليون يوم عمل “ضائع”.