قيس سعيّد في رسالة مضمونة الوصول: ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها
الإيقافات الأخيرة التي نفذتها قوات الأمن التونسية في حق أشخاص يعدون من “الوجوه البارزة” ومعروفين في العمل السياسي والنقابي والإعلامي، وكذلك من رجال الأعمال، ليست سوى “عمل روتيني” تقوم به أجهزة الدولة لحماية أمنها ومؤسساتها.
هذا ما يوحي به الخطاب الرسمي على الأقل، والذي يحاول الابتعاد عن إثارة أي ضجة إعلامية مفترضة، وذلك للقول بأن الدولة حاضرة وتقوم بواجبها عبر سلطتيها القضائية والتنفيذية بمعزل عن أي جدل سياسي.
أما الرسالة المفتوحة، ومضمونة الوصول التي يبعث بها الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى خصومه السياسيين وقد آلت لصالحه كل الأمور بعد الانتخابات البرلمانية، فمفادها أن لا بديل عن الدولة سوى الدولة.
حملة الإيقافات التي تمت في حق شخصيات متفاوتة الدرجات والأحجام والفاعلية في العمل الحزبي والنقابي والنشاط الحقوقي، جاءت على خلفية شبهات واتهامات متنوعة بدورها، تتعلق بالفساد والإرهاب وتقويض الأمن وإثارة القلاقل.. وتصل حتى إلى درجة التآمر على أمن الدولة.
ملفات مختلفة إذن في عهدة النيابة التونسية التي بدت متحفظة ولم تكشف عن التحقيقات، لكن أبرز ما يهمّ الشارع التونسي المثقل بهمومه المعيشية هو محاربة الفساد والتحقيق مع مرتكبيه، لاسيما وأن الأدلة متوفرة والإدانات حاصلة.
الأغلبية التي وقفت في صف الرئيس سعيّد، لامته على هذا البطء الحاصل في معالجة ملف الفساد ومحاسبة رموزه من الذين بات يعرفهم رجل الشارع واحدا واحدا، فلماذا التمطيط والتسويف، الأمر الذي بات يهدد شعبية الرئيس بعد الحزم الظاهر إبان 25 يوليو 2021.
الملف النقابي بدوره، صار عبئا على المواطن التونسي الذي يستيقظ في كل مرة على إضراب يشلّ تحركاته ويعطّل مصالحه من دون وجه منطق بفعل تحريض جماعة حادت عن العمل النقابي وأصبحت تمارس الابتزاز السياسي، مما يعمل على استضعاف الدولة ويفقدها هيبتها، ويمهد للفوضى واهتزاز النظام العام.
أما عن المعارضة السياسية، فالمواطن التونسي لم يعد يعني له العمل الحزبي شيئا، ويأتي ضمن آخر اهتماماته، بدليل أنه انتخب رجلا لا يؤمن بفاعلية الأحزاب وقدرتها على التغيير أمام الإرادات الشعبية التي ينبغي أن تتولاها الدولة بالنوايا النزيهة والبعيدة عن الفساد.
وهذا ما تصفه المعارضة الحزبية بالشعبوية التي يمثل قيس سعيد واحدا من رموزها في نظر بعض القيادات الحزبية. ولسائل أن يسأل: أين رصيدكم أنتم، حتى من هذه الحالة الشعبوية التي تطلبونها فلا تدركونها؟
هوت كل الأحزاب في تونس على مختلف أحجامها، من جماعة “الصفر فاصل” التي يمثلها حزب العمال اليساري بزعامة حمة الهمامي، إلى التي توهمت بأنها تمثل الأغلبية مثل حركة النهضة التي يتزعمها راشد الغنوشي.
العشرية الماضية التي ينعتها التونسيون بـ”السوداء” كانت كفيلة بأن ينفض الناس من حول الإسلام السياسي، وكل الأحزاب التي تدعي تمثيلهم.
وكمحاولة بائسة ويائسة لاسترداد السلطة والنفوذ، انبرت بعض قيادات هذه الأحزاب في تونس إلى التحالف مع أصحاب المال السياسي، وتكوين نوع من الوفاق يهدف إلى تنحية الرئيس سعيد الذي انقلب في نظرهم على الدستور، يوم قرر تجميد عمل برلمان الغنوشي ومن ثمة حلّه وإقالة حكومة المشيشي.
الخطوة التي اتخذتها الوجوه المعارضة للرئيس سعيد هي، وبحسب المصادر الأمنية التونسية، الاجتماع في منزل أحد رجال الأعمال بقصد الانطلاق فيما أسمته “مبادرة”.. والنتيجة الآن في عهدة “الوحدة الوطنية الأولى للبحث في جرائم الإرهاب والجرائم الماسة بسلامة التراب الوطني” التي تتولى التحقيق في الملف الذي يواجه فيه المشتبه بهم تهما متعلقة بـ”تكوين وفاق بغاية التآمر على أمن الدولة وتدبير الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة”.
معارضو الرئيس التونسي سعيد يقولون إنه بهذه الإجراءات، يهدف إلى توجيه الأنظار عن الأزمات التي تعيشها البلاد على غرار الأزمة الاقتصادية والسياسية، لكن غالبية الرأي العام في تونس تهلل للاعتقالات التي يقولون إنها طالت الفاسدين، ودون أن تنسى المطلب التقليدي الأول، والمتمثل في معالجة الوضع المعيشي المتردي.
المؤكد أن الأجهزة الأمنية التونسية لا تتحرك عن اعتباط وعشوائية، وهي غير معنية بأجندات وكيديات سياسية بين الرئيس وخصومه.
وبات من الواضح أن الدولة لن تتراخى في هذا الموضوع الذي يخص أمنها. وهكذا أصبح الرئيس سعيد أقوى من أي وقت مضى، خصوصا أن لا مآخذ دستورية أو حقوقية تُحسب عليه بعد أن تشكل البرلمان وفق انتخابات نزيهة، وكذلك مازالت الحريات الفردية مصانة رغم الهجمة الشرسة التي يتعرض إليها من طرف خصومه الذين تمادى البعض منهم إلى الاستقواء بجهات خارجية.
رسالة قيس سعيد، أصبحت واضحة لا لبس فيها بعد أخذ عليه حتى مؤيدوه، بعض التردد: ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها، ولمن يشكك في دستورية ما انتهجته، فليأتني ببرهانه إن كان من الصادقين.