بريطانيا.. تقوية الجيش
“لا شيء مستبعد فيما يتعلق بدعم كييف ضد موسكو”.. هكذا قال رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك، أمام وسائل الإعلام، حين استقبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في لندن.
ولما غادر الضيف، سمع سوناك الحقيقة من وزير خزانته: “العين بصيرة واليد قصيرة”، ولا يمكن زيادة الإنفاق العسكري في المدى القصير.
استمرار تدفق السلاح البريطاني إلى أوكرانيا يضعف قدرات المملكة المتحدة الدفاعية مع مرور الوقت.. وتعويض النقص يحتاج إلى أموال لا تعرف الحكومة من أين توفرها.. فحال الجيش يشبه جميع مؤسسات القطاع العام، يئن تحت وطأة التضخم المرتفع وكُلفة الحياة الباهظة، فيبدو مستقبل كل الأنشطة الخاصة والحكومية ضبابيا.
تستند استراتيجية تطوير القوات المسلحة إلى مراجعة حكومية أنجزت قبل أشهر من تفجر حرب أوكرانيا.. والإمكانيات الاقتصادية للدولة اليوم لا تكفي لتغيير تلك الاستراتيجية أو تسريعها كما تأمل حكومة سوناك.
وفي الوقت ذاته يقول خبراء محليون وأمريكيون إن جيش المملكة المتحدة بات يعاني ضعفا يزداد سنويا بوتيرة متسارعة.
بريطانيا صاحبة ثاني أكبر ميزانية دفاعية في حلف شمال الأطلسي، بعد أمريكا.. ورغم ذلك، لن تصمت واشنطن وعواصم الحلف “الدفاعي” إزاء تقاعس لندن عن زيادة الإنفاق على الجيش في العامين، الجاري والمقبل.. فقد شرعت دول أوروبية -ألمانيا وفرنسا- في زيادة مخصصاتها العسكرية في سياق “حرب الغرب مع روسيا”.
وفق الأرقام الرسمية، بلغت حصة الدفاع من الناتج الإجمالي المحلي للمملكة المتحدة نسبة 2.2% خلال العامين الماضيين.. كما توضح الأرقام أن الجيش البريطاني خسر كثيرا من عتاده وسلاحه منذ مطلع الألفية الثالثة، وتراجع عدد جنوده بشكل ملحوظ حتى بلغ 76 ألف جندي في 2022، مقارنة بنحو 213 ألفا عام 2000.
رصيد الجيش البريطاني من الدبابات تراجع من 1200 دبابة عام 1990 إلى 227 الآن.. وقد قررت لندن مؤخرا إرسال 14 دبابة من هذا الرصيد إلى أوكرانيا.. أما الطائرات الحربية، التي لا تستبعد حكومة حزب المحافظين إرسال بعضها إلى كييف في المستقبل القريب، فقد كان الجيش البريطاني يمتلك نحو ألف منها عام 2006، أما اليوم فلديه 479 فقط.. وهذا يتضمن 278 طائرة مقاتلة، وأقل منها مروحيات.
القوات البحرية البريطانية كانت تمتلك 164 قطعة عسكرية عام 1982، بينها 3 حاملات طائرات و64 فرقاطة ومدمرة.. أما اليوم، فتعداد قطعها يبلغ 72، تتضمن حاملتَي طائرات و18 فرقاطة ومدمرة.
ورغم التراجع، يعتبر الأسطول البحري الأفضل حالا بين قوات المملكة المتحدة من ناحية الحداثة وتطور التقنيات المستخدمة.
مطلع 2022، وضعت بريطانيا استراتيجية لتطوير جيشها تمتد لعقد من الزمن، وتبلغ قيمتها نحو 250 مليار جنيه إسترليني.. ولكن اشتعال الحرب الأوكرانية-الروسية خلط الأوراق، ووضع لندن أمام استحقاق تسريع تطوير القدرات العسكرية للدولة خلال زمن أقصر بكثير، في ظل أزمة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة عالميا.
حتى اليوم، قدمت بريطانيا نحو 2.3 مليار جنيه إسترليني مساعدات عسكرية لأوكرانيا.. إضافة لعشرات الصواريخ المضادة للدبابات، وأكثر من 200 عربة مدرعة، وما يقرب من 10000 طلقة مدفعية.. ولكن هذا الدعم تحول إلى نقص في قدرات الجيش، وأثار القلق من عجز في الدفاع عن النفس إنْ تعرضت البلاد لاعتداء خارجي.
ثمة استثمارات بقيمة 24 مليار جنيه إسترليني خصّصتها الحكومة للقوات المسلحة خلال السنوات الأربع المقبلة.. ولكن وزير الدفاع يحتاج إلى زيادة بنحو 10 مليارات خلال 2023-2024.
هنا يرد وزير الخزانة بأنه لن يمنح المؤسسة العسكرية استثناء في زيادة الإنفاق، وهو يعد كل القطاعات الأخرى لتقليص في ميزانياتها.
وزير الدفاع في حكومة الظل العمالية، جون هيلي، يقول “إن الاستمرار في النهج، الذي وُضع قبل الحرب الأوكرانية، وعدم الاعتراف بالحاجة إلى زيادة الإنفاق العسكري، لا يعكس فهما كاملا لحقيقة ما يجري في أوروبا”.
ولكن هل كان الحزب القائد للمعارضة سيزيد ميزانية الجيش فعلا لو كان على رأس السلطة بدل حكومة حزب المحافظين؟
يصعب على الحكومة البريطانية رفد ميزانية الدفاع بمليارات كثيرة، لأنها ستكون موضع نقد من قبل بقية مؤسسات القطاع العام، التي يتظاهر موظفوها اليوم احتجاجا على تآكل قيمة أجورهم، وتردّي الأوضاع الاقتصادية لأسباب عديدة، على رأسها “فشل” خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وتداعيات وباء كورونا المستمرة.
ربما تلجأ الحكومة البريطانية إلى زيادة محدودة في ميزانية الدفاع، وحلول كدعم صناعات عسكرية محلية، وإعادة تأهيل الأسلحة الحالية.. ولكن ذلك لن يحقق للمملكة المتحدة استعادة جيش عالمي قوي خلال وقت قصير.. فحرب أوكرانيا لن تنتظر.
بريطانيا توسعت كثيرا خلال الأعوام الماضية في الاستيراد العسكري.. وإعادة تأهيل عتاد الجيش مهمة يشوبها قلق إزاء عدم فاعلية الأسلحة بعد صيانتها وتصليحها.. وهنا يأتي خيار تأجيل مشاريع تسليح طويلة الأجل لصالح أخرى عاجلة وملحة وأقل كلفة وزمنا.. خاصة وأن جيرمي هانت يتهم وزارة الدفاع بـ”الهدر” و”تبني مشاريع فاشلة”.
يميل الشارع البريطاني نحو تطوير الجيش ودعم قدراته رغم الأزمة الاقتصادية، ولكن في سياق تعزيز قوة الردع للدولة كجزء من حلف الناتو لا يزال سكان المملكة المتحدة يؤيدون دعم أوكرانيا، ولكن ليس بسقف مفتوح وعزف منفرد من لندن.. حيث يخشى البعض أن تقود “حماسة المحافظين” نحو مواجهة مباشرة للغرب مع روسيا.
الكاتبة الهندية الفائزة بجائزة بوكر عام 1997، تقول “إنه في الماضي كانت الأسلحة تُصنع لتُستخدم في الحروب، واليوم تُصنع الحروب لتُباع الأسلحة”.. الحرب قد بدأت في أوكرانيا، فأعلن النفير في العالم، وانتعشت مصانع السلاح.. ويبدو أنه لم يبق للمملكة المتحدة إلا أن تختار أي المصانع ستقصد، وأي الأسلحة ستختار للمشاركة فيها.