“الغنوشي” ومشروع الحرب الأهلية
لوح رئيس حزب “حركة النهضة” التونسي بالحرب الأهلية إذا استمر إبعاد الإسلام السياسي و”حركة النهضة” من المشهد الحالي، وهنا هدد زعيم “الإخوان المسلمين” بأن تتحول تونس الخضراء إلى ساحة حرب أهلية لو بقي أعضاء التنظيم خارج معادلة الحكم هناك، وهو ما يُترجم الاتهامات التي سبق ووجهت إليه وتتعلق بدعمه الإرهاب.
تهديد راشد الغنوشي لم يمر على الدولة القوية في تونس، بخاصة أن الرئيس التونسي قيس سعيد، آل على نفسه مواجهة مشروع التنظيم التخريبي، كما انزعج وهو رجل قانون في الأساس من تهديد “الغنوشي” فتم توقيفه والتحقيق معه.
جاء تهديد رئيس “النهضة” أثناء حديثه مع قيادات من “جبهة الخلاص الوطني”، إذْ قال: “لا أتصور تونس من دون هذا الطرف أو ذاك، تونس من دون نهضة، من دون إسلام سياسي، تونس من دون يسار أو أي مكون، هذا مشروع حرب أهلية، هذا إجرام في الحقيقة”.
كلام الرجل الثمانيني يحمل تهديداً بأن تونس سوف تشهد حرباً أهلية، فسياق حديثه يدل إلى أن الرجل لديه مشكلة في استبعاد تياره من المشهد السياسي، موقفه أقرب إلى موقف التنظيم في مصر، عندما قطع مسافات كبيرة في طريق الحرب الأهلية لولا تدخل القوات المسلحة المصرية في عام 2013 لينتهي انقسام الشارع.
هناك تفسيرات متعددة لكلام الغنوشي، فالرجل لم يقل إنه سوف يحول البلاد إلى ساحة حرب، ولكنه قال الكلام الذي يحمل هذا المعنى، تهديد مبطن، رسالة أراد أن يوصلها إلى الشعب التونسي وإلى القيادة السياسية وإلى أجهزة الأمن أيضاً التي تأخذ مثل هذه التصريحات على محمل الجد، فأجهزة الأمن عادة لا تنتظر حتى تقع الكارثة ولكنها تُحاول أن تراها بعين ثاقبة وعن بُعد.
مصر كانت مقبلة على حرب أهلية لولا تدخل القوات المسلحة لإنهاء اعتصام التنظيم الذي شل الحياة في مكان الاعتصام والأماكن المحيطة، فضلاً عن توسع التنظيم في وقف مظاهر الحياة أمام الوزارات والمصالح الخدمية وسط القاهرة؛ منعوا دخول النّاس إلى الوزارات والمؤسسات وخروجهم منها، وهنا كان قرار فض هذه الاعتصامات، الموقف لم يكن من التظاهر ولكن من وقف مظاهر الحياة وتعزيز انقسام الشارع الذي خلقه تنظيم الإخوان، ثم قراره ممارسة العنف بعد ذلك.
قد يفهم من كلام زعيم الإخوان في تونس أن ثمة إعاقة فكرية وأيديولوجية في البلاد تؤسس لحرب أهلية، لكن قوله يحمل في الوقت نفسه تهديداً واضحاً بأن تتحول البلاد إلى حرب أهلية، لو أنّ السلطة السياسية استمرت في عزل “الجماعة”!
ولعل حديث الغنوشي أقرب إلى حديث الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، مع وزير الدفاع آنذاك، محمد حسين طنطاوي، قبل أن يتسلم مرسي السلطة، إذ هدد الأخير بإضرام النيران، وقال: الموجة الموجودة إضرام نيران لمن لا يقدر المسؤولية، لا أتمنى هذا ولا أريده ولا أوافق عليه.
فرد عليه القائد العام للقوات المسلحة في الجلسة نفسها التي كان حاضراً فيها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، عندما كان رئيساً لجهاز المخابرات الحربية، بقوله إن هناك تخطيطاً لإضرام النيران، وليس شعوراً تلقائياً كما حاول “مرسي” أن يلطف من تهديده الواضح بعدما أوقفه وزير الدفاع مواجهاً التهديد بتهديد مماثل إذا أقدم التنظيم على ذلك.
موقف الرئيس المعزول محمد مرسي، لم يختلف كثيراً عن تهديد راشد الغنوشي، فكل منهما أراد إيصال رسالة مفادها: إما نحن أو الفوضى والعنف، فقد فعلوا ذلك في مصر ومقبلون على تنفيذه في تونس، ولذلك تونس على مفترق طرق، إما أن تواجه هذه التهديدات وتثبت قوتها كدولة، أو أن ترضخ لتهديدات قيادات زعماء الإسلام السياسي فيها.
العجيب أن راشد الغنوشي يقدم نفسه على أنه صاحب مشروع إصلاحي داخل تنظيم الإخوان، وأنه لا ينصح بالصدام المباشر؛ يرى تنفيذ المشروع من دون استفزاز أو استنفار خصومه، ولعله زار القاهرة في عام 2012 كي ينصح الإخوان داخل مكتب الإرشاد، بعدم طرح التنظيم مرشحاً في الانتخابات الرئاسية داعياً إلى أن يكتفي التنظيم بإعلان تأييده للمرشح عبد المنعم أبو الفتوح أو حمدين صباحي، إلا أن “الجماعة” لم تسمع لنصيحته وأصرت على الدخول في صدام مع المجتمع، فكانت ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013 إحدى ثمار هذا الصدام.
الغنوشي يتفق مع التنظيم الأم في القاهرة في مشروعه، غير أنه يرى التمهل في تنفيذ خطوات هذا المشروع حتى لا يلقى مواجهة تفككه من الداخل، فتكون خسارة الإخوان خسارة للمشروع والتنظيم معاً، وقد صدق حدسه مع “إخوان القاهرة” كما أنه سلك مسلكهم نفسه حتى سقط هو الآخر في ما كان يُحذر منه.
التحقيق مع راشد الغنوشي هو بداية الطريق في مواجهة الحركة والتنظيم وأفكارهما التي يُهددان من خلالها كل من يخالفهما، يستخدمان الدين في تهديد خصومهما والاستقواء عليهم، وهنا تبدو خطورتهما في تطويع الدين لمشروعهما السياسي، وفي إحراق أتباعهما بهذه الخصومة، وهم مع ذلك دنّسا الدين وأحرقا الخصوم.
عادة الإخوان أن تكون تهديداتهم مبطنة، وإذا ما تمت مواجهتهم بهذه التهديدات يجدون من خلالها ما يستطيعون التبرؤ به منها أو من دعوة العنف أيضاً، ولعل هذا هو السر وراء عدم التصريح المباشر للغنوشي من أن استبعاد الإسلام السياسي سوف يؤدي إلى حرب أهلية، وكذلك تهديد مرسي بإضرام النيران لو خرجت نتيجة انتخابات الرئاسة بغير ما يتوقعون.
وُجهت للغنوشي من قبل اتهامات بالفساد المالي والإرهاب والاغتيالات وتسفير الإرهابيين إلى بؤر التوتر والتخابر على أمن الدولة التونسية، وتهديده بحرب أهلية يؤكد الاتهامات السابقة أو لعله يفتح الباب للتحقيق معه، فلو لم تتم إدانته قضائياً فيكفي الإدانة الشعبية.
خطورة الإخوان وراشد الغنوشي في أنهم يدعون إلى ممارسة العنف بأشكال مبطنة، فيجعلون فريقاً منهم يمارس العنف علانية بينما يجعلون فريقاً آخر يمارس الدعوة، وعندما توجه إليهم تهم ممارسة العنف أو التهديد به، تجدهم يواجهونك بالدعويين داخل الجماعة، هنا تبدو خطورة التنظيم الذي انخدع به بعض المثقفين والكتّاب وبعض السياسيين، بل وبعض رجال الأمن وقليل من الزعماء والرؤساء!