كتائب الظل في السودان
ما قاله النائب الأول لرئيس الجمهورية السودانية السابق علي عثمان طه، من وجود كتائب ظل للإخوان مستعدة للدفاع عن نظام عمر البشير قبل سقوطه لم يكن مفاجئًا؛ فالرجل اعترف بأن هذه الكتائب مستعدة أن تضحي بأرواحها إذا ما طلب منها ذلك.
حديث عثمان طه الذي أدلى به لقناة تلفزيونية محلية قبل 4 سنوات يُترجم فكرة العنف لدى جبهة الإنقاذ، التي استمدتها مما طرحه المؤسس الأول للإخوان المسلمين، حسن البنا، بصورة أكثر وضوحًا في عام 1938، مع صدور رسالة التعاليم التي أعقبها المؤتمر الخامس، ونتج عنهما تدشين ما أطلق عليه المؤسس وقتها بـ”النظام الخاص”، وهو بمثابة ذراع عسكرية للجماعة.
وبالتالي هناك ربط بين فكرة العنف التي طرحها الإخوان في بدايات نشأة التنظيم وبين ممارسة الإخوان في السودان للعنف سواء من خلال الانقلاب العسكري الذي قاموا به في عام 1989 وتشكيل ما سُمي “الأمن الشعبي والطلابي” وخلافه، ودور هذه الكتائب في وقوف السودان على خط النّار، فهم كانوا بمثابة “بارود” هذه الحرب المستعرة حتى الآن.
فالنائب الأول للرئيس المخلوع عمر البشير، قال إن هذه الكتائب موجودة وتدافع عن النظام السياسي، مشيرًا إلى أنها تعمل على تسيير دولاب العمل ولها علاقة بالعمل المدني، كما أنها تستخدم العنف إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، وهو دليل على تعدد أدوارها ولم يكن نفيًا لمفهوم العنف عنها، مضيفاً أنها تقوم بالتضحية بالروح إذا ما اقتضى الأمر ذلك.
كان حسن الترابي مسؤولاً عن التشكيل المدني المسلح في عام 1989 من قبل الحركة الإسلامية بهدف دعم تحركات عمر البشير داخل الجيش؛ فبعد أن نجح الانقلاب العسكري تم تشكيل كتائب أخرى من أعضاء الجبهة الإسلامية، هدفها مساندة النظام السياسي خشية انقلاب أحد جنرالات الجيش على عمر البشير؛ وقامت بدورها في حماية النظام على مدار ثلاثة عقود.
هذه الكتائب كانت أدوارها منوعة بين العمل المدني المساند للنظام السياسي وبين العمل العسكري إذا اقتضت الضرورة، كما أن تشكيلها ظل سريًا لكنه معلوم حتى تم التصريح به على لسان نائب رئيس الجمهورية قبل ثورة ديسمبر/كانون الأول من عام 2018 التي انتهت بخلع البشير في أبريل/نيسان من عام 2019.
صحيح أن الاحتجاجات الشعبية أدت إلى خلع البشير من السلطة، ولم تستطع هذه الكتائب أن تقوم بدورها في حماية النظام السياسي، لكنها نجحت في إرباك المشهد السياسي خلال المرحلة الانتقالية التي ما زال يعيشها السودان حتى الآن. الأخطر أنها نجحت في إشعال فتيل الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، صحيح أن التوتر بين القوتين الكبيرتين كان موجودًا لكن الكتائب زادت جرعة هذا التوتر وأطلقت كرة النار عليه حتى اشتعلت الحرب، ثم باتوا وقودها بعد ذلك.
كتائب الظل في السودان لم تكن نسخة من الأجنحة العسكرية التي شكلتها الكثير من الجماعات والتنظيمات الإسلاموية المتطرفة، كما أنها تبدو مختلفة عن تشكيلات الإخوان المسلحة بمصر سواء في عهد المؤسس الأول حسن البنا التي تم إطلاق اسم النظام الخاص عليها أو التي تم تشكيلها بعد عام 2013.
لكنها صورة جديدة من تشكيل مسلح ومدني، أدواته لم تكن السلاح فقط، وقد ارتأت الدفاع عن النظام السياسي من خلال حمايته من الاعتصامات والإضرابات ومواجهة أي خروج عليه حتى ولو كان من الجيش نفسه، بعدها اتجه عمر البشير إلى تشكيل قوات مسلحة بحيث تكون رديفًا أو بديلًا لهذه القوات التي ضعفت بطبيعة الحال مع ضعف نظام عمر البشير خلال العقود الثلاثة التي قضاها في السلطة.
استقرار السلطة في يد عمر البشير طوال ثلاثين عامًا ربما أضعف هذه الكتائب التي لم تستطع أن تقوم بدورها في حماية النظام من السقوط، لكنها نجحت في إشعال الحرب وإذكاء الفوضى في البلاد، بهدف عودتها إلى المشهد السياسي؛ فقد ظهروا كطرف ثالث قتل المتظاهرين أو ساعد على ذلك، كما أنهم نشطوا على مواقع التواصل الاجتماعي، ونجحوا في إذكاء الخلاف الذي وصل إلى الحرب المشتعلة حاليًا.
وأعادت الحركة الإسلامية تشكيل هذه الكتائب وتسليحها وفق ما قد يُطلب منها خلال الفترة المقبلة؛ حيث تتم تقويتها بحيث يكون دورها مقتصرًا على العمل المسلح، وفق طبيعة الدور المنوط لها القيام به خلال الفترة المقبلة؛ وبالتالي لا بد للأطراف العربية والدولية التي تبحث عن مخرج للأزمة في السودان أن يتحدد دورها في تفكيك هذه الكتائب حتى ينتقل السودان إلى مرحلة الاستقرار.
الإخوان استخدموا العنف قولًا واحدًا، وضحاياهم بالسودان ملقاة في الطرقات والأزقة، لكنهم كانوا أذكى من تعزيز هذا الاتهام عليهم، فعندما أنشأوا كتائب الظل جعلوها سرّية وأعطوها شكلًا مدنيًا وآخر عسكريًا تتحرك على خلفيته إذا تطلب الأمر ذلك، وهنا تحركت الكتائب بهدوء في إشعال الحرب في السودان وارتدى رجالها زيًا لا يُعرفون من خلاله، فكان دورهم أكبر وأكثر تأثيرًا، وهنا تبدو أزمة السودان الحقيقية مع الإخوان والكتائب التي شكلوها.
الحركة الإسلامية في السودان نجحت في عمل انقلاب عسكري في عام 1989 رغم أن الجماعة في مصر سبقتها إلى محاولة الانقلاب في عام 1979 من خلال بعض شبابها الذين اقتحموا مبنى الكلية الفنية العسكرية وحاولوا السيطرة على مخازن السلاح ثم التحرك عبر المدرعات التي تقع في قبضتهم إلى مقر الاتحاد الاشتراكي، حيث يجتمع الرئيس آنذاك محمد أنور السادات مع قيادات الجيش وبعض القيادات السياسية، وفق ما رواه لي بعض قيادات هذا الانقلاب قبل وفاتهم، لكنهم فشلوا في تحقيق ما أرادوه.
وهنا كان الإخوان في السودان أذكى بحيث نجحوا في انقلابهم بهدوء قبل أكثر من ثلاثين عامًا، كما أنهم نجحوا في تسويقه دوليًا، عندما تم سجن حسن الترابي، وكانت مغزى الرسالة أنه انقلاب جنرالات وليس انقلاب الإخوان أو الحركة الإسلامية، أو على الأقل التسويق إلى أن خلافًا نشب بين قادة الانقلاب والإخوان، وهو ما عززته مقولة الترابي بعد نجاح الانقلاب حيث قال للبشير: اذهب أنت إلى القصر أما أنا فسأذهب إلى السجن.
كتائب الظل هي كلمة السر في حرب السودان، كما أنها كلمة السر في الحرب الأهلية المحتملة إذا استمرت ظلال الحرب الحالية قائمة؛ وإذا كانت ثمة إرادة عربية ودولية للتعامل مع هذه الحرب وتبعاتها فلا بد من التعامل مع الكتائب التي تتخفى رغم ظلها الممتد في كل ربوع الفوضى بالسودان.