مساعٍ أوروبية لانتهاجِ سياسةٍ دفاعيةٍ مستقلة
منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، اعتمدت أوروبا الغربية على الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها، ودرء الأخطار المحدقة بها سواء من داخلها، أو من روسيا وحلفائها. إلا أن هناك توجهاً جديداً تقودُه فرنسا وألمانيا للاعتمادِ على النفس في قضايا الدفاع.
لم تعد أوروبا تثق بالولايات المتحدة في قضايا الدفاع لسببين رئيسيين؛ الأول هو التردد الأميركي في الدفاع عن أوروبا، الذي اتضح في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، ووجود مساعٍ أميركيةٍ حثيثة، لدفع أوروبا للاعتماد على نفسها، أو على الأقل المساهمة الفعلية في تكاليف الدفاع، البشرية منها والمادية.
والأسوأ من ذلك، سعت إدارة ترامب لإضعاف الاتحاد الأوروبي، بتشجيع بريطانيا على الخروجِ منه، عبر تقديم وعود “هوائية” بإبرامِ اتفاقية للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، لتعويضِها عن أي خسارة تتكبدها عند مغادرة الاتحاد الأوروبي. وكذلك في التحالف والتنسيق مع دول أوروبية تقودها أحزاب يمينية كهنغاريا وبولندا وبريطانيا.
والسبب الرئيسي الثاني هو تزايد الخطر العسكري الروسي في ظل الرئيس فلاديمير بوتين، الذي حاول منذ عام 2008 أن يتوسع غربا، محاولا إعادة بناء الإمبراطورية الروسية بالقوة العسكرية. الخطر الروسي يهدد أوروبا لا أميركا، وإن أتت إدارة جمهورية برئاسة ترامب، الذي كان منسجما مع بوتين، بل هناك اتهامات من الحزب الديمقراطي بأن روسيا تدخلت في انتخابات عام 2016 لدعمه، فإن التعويل على الدفاع الأميركي عن أوروبا في حال تعرضها لخطر روسي، لن يكون مأمونا.
الاتحاد الأوروبي يقوم على ركيزة أساسية هي التحالف الفرنسي الألماني. وهذا التحالف لم يكن صلدا خلال الفترة الماضية، فهناك اختلافات سياسية كبيرة بين البلدين، وتوجهات اقتصادية مختلفة. ألمانيا اعتمدت اعتمادا كبيرا على الطاقة المستوردة من روسيا. كما أن تجارتها مع روسيا بلغت 60 مليار يورو عام 2021، حسب مجلة “بوليتكو”، وهي متنوعة وتشمل مجالات واسعة، تأتي في مقدمتها سيارات ومكائن مرسيدس. لكنها الآن مضطرة، بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، أن تمتنع كليا عن استيراد الطاقة الروسية، وأن تقطع العلاقة التجارية نهائيا معها، الأمر الذي أضر كثيرا بالاقتصاد الألماني، إذ انكمش بنسبة 5% عام 2022 حسب بيانات وكالة Destatis، بينما لا تبشر التنبؤات بتعافٍ سريع حسب الخبير في بنك بيرنبيرغ الألماني، فلوريان هنس.
أما الاقتصاد الفرنسي فشديد الاختلاف عن الألماني. فرنسا مثلا، لا تستورد الغاز من روسيا لأن صناعتها النووية متطورة وتعتمد اعتمادا أساسيا على الطاقة النووية للأغراض الصناعية والاستهلاكية. كما أن اقتصادها لا يعتمد على الصادرات بشكل عام، والصادرات مع روسيا بشكل خاص، كما هي حال الاقتصاد الألماني. ففي عام 2021، كان الميزان التجاري متعادلا تقريبا بين البلدين، مع ميل طفيف لصالح فرنسا، إذ بلغت قيمة الصادرات الفرنسية إلى روسيا 9 مليارات دولار، والروسية لفرنسا أكثر قليلا من 8 مليارات دولار حسب مؤشر OEC للبيانات التجارية، ومعظمها خدمات، وليس بضائعَ وسلعا.
كانت فرنسا تعارض توسيع الاتحاد الأوروبي، وقد شكك كثيرون بهدف الرئيس الفرنسي من السعي لتأسيس “المجموعة السياسية الأوروبية” EPC، التي تحدثتُ عنها في مقال سابق، وعقدِ قمة للزعماء الأوروبيين مرتين في العام، من أنها تندرج ضمن خطة فرنسا لإبعاد الدول الاوربية، غير المنضوية حاليا في الاتحاد الأوروبي، عن الانضمام إلى الاتحاد، عبر توفير نافذة جديدة لها للتعاون مع دول الاتحاد الاوروبي.
لكن الرئيس ماكرون برهن على خطأ هذه التوقعات عندما دعا إلى توسيع عضوية الاتحاد والأوروبي، وضم أوكرانيا ومولدوفا إليه، كما سحب اعتراض فرنسا على انضمام ألبانيا ومقدونيا الشمالية إلى الاتحاد. ويسعى ماكرون حثيثا إلى تعزيز العلاقة مع ألمانيا، لأنها الأساس الصلب الذي يرتكز عليه الاتحاد الأوروبي، فقد زار ألمانيا في السادس من الشهر الجاري والتقي بالمستشار الألماني، أولاف شولتز، في مقر إقامته في بوتسدام قرب برلين، للتباحث في الأمور التي يختلف عليها البَلَدانِ حاليا، وهي كثيرة، من كيفية توسيع الاتحاد وتعزيز قدراته الدفاعية، إلى إصلاح قواعد الدَيْن العام التي اقترحَتْها المفوضية الأوروبية.
وقد تجول الزعيمان في المدينة وصرح شولتز للصحافة الألمانية بأنه الآن “يُقْسِم بالصداقة الفرنسية الألمانية”، بمعنى أنها صارت مقدسةً بالنسبة له. ويرى مراقبون أن دعوة المستشار الألماني للرئيس الفرنسي إلى منزله في بوتسدام، تهدف إلى تذليل الخلافات العميقة بينهما عبر زيادة الحميمية بين الزعيمين.
وسيزور ماكرون في يوليو/تموز المقبل ألمانيا مرة أخرى، ولكن الزيارة رسمية بروتوكولية هذه المرة، وبدعوة من الرئيس الألماني، فرانك-فالتر شتاينماير، لكنه سيلتقي أيضا بالمستشار الألماني على الفطور، من أجل التشاور وإجراء المزيد من المباحثات.
وتشير التحركات السياسية الأوروبية، من زياراتٍ متبادلة، ومؤتمراتٍ موسعة، وتكتلاتٍ جديدة، وخططٍ لتوسعة الاتحاد، وإلغاءٍ للاعتراضات على انضمام دول جديدة، وزيادةٍ للإنفاق العسكري، إلى أن الأوروبيين جادون في توطيد العلاقات وزيادة التنسيق بين دولهم، على الأقل في مجال الدفاع، ثم توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل أغلب الدول الأوروبية، على الأمد البعيد.
لكن شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مازالت صارمة، خصوصا وأنها تتضمن تبني الأعضاء الجدد عملة اليورو، فهذه الخطوة تتطلب الالتزام بما يسمى بـ”معايير التقارب” وهي معايير اقتصادية وقانونية نصَّت عليها اتفاقية ماستريخت لعام 1992، والقرار النهائي لقبول عضوية بلدٍ، أو رفضها، يتخذه مجلس الاتحاد، بالإجماع أغلب الأحيان.
وتشمل هذه المعايير أن تكون المؤشرات الاقتصادية في البلد المتقدم للانضمام لليورو، قريبة من المؤشرات الاقتصادية في مجموعة اليورو. أما الانضمام إلى الاتحاد فتحكمه معايير معاهدة كوبنهاغن لعام 1993 والتي تنص على أن يكون البلد المنضم ديمقراطيا، وملتزما بقوانين حقوق الإنسان، ولديه اقتصاد حر راسخ، وأن يكون مستعدا لتبني قوانين الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تبني عملة اليورو. فإن أراد قادة الاتحاد الأوروبي توسيعه ليشمل دولا أخرى على وجه السرعة، فإنهم يحتاجون إلى تعديل هذه المعايير.
هناك الآن سبع دول أعضاء في الاتحاد لكنها ليست ضمن منطقة اليورو لأسباب مختلفة. الدنمارك مثلا تنطبق عليها معايير ماستريخت لكنها لم تنضم بعد لأن استفتاء شعبيا، أُجري مرتين، رَفَضَ تبني اليورو. السويد هي الأخرى يمنعها استفتاء شعبي من تبني اليورو. أما بولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وجمهورية التشيك، فلا تنطبق عليها معايير الانضمام إلى اليورو حاليا.
لكن تأسيس المجموعة السياسية الأوروبية EPC يدل على أن قوانين الاتحاد الأوروبي ومعايير الانضمام إليه لن تتغير، وهي في الحقيقة لا يمكن تغييرها بسهولة، لأنها تبلورت عبر سنين من التفاوض بين الدول الأعضاء، وأن تغييرها يتطلب مفاوضات عسيرة وطويلة، لذلك فإن التنسيق بين الدول الأوروبية عموما سيجري ضمن EPC، بينما الاتحاد سوف يتوسع بشكل طبيعي ووفق المعايير والضوابط الاقتصادية الحالية.
حلف الناتو مازال يمثل المظلة الرئيسية للتحالف الغربي، والذراع العسكري الضارب له ضد خصومه، وأن هذا الحلف مازال قويا، بل صار أكثر قوة بعد انضمام فلندا والسويد له، وسوف تنضم إليه دول أخرى بمرور الزمن، خصوصا مع تزايد الخطر الروسي، ولا يمكن المرء أن يتصور الولايات المتحدة ستتخلى يوما عن الحلف، الذي قادته منذ تأسيسه في معاهدة واشنطن عام 1949، وساهم مساهمة فعالة في سيادة الولايات المتحدة عالميا وتعزيز قوتها، مهما كانت درجة الانكفاء لدى القيادة الأميركية.
وكلما تنامت فرص ترامب بالفوز في الرئاسة الأميركية، فإن مخاوف الأوروبيين من تخلي أميركا عنهم تزداد. لكن فرص ترامب في الفوز تتناقص مع تزايد الدعاوى المقامة عليه، وتنامي خطورتها على مستقبل الحزب الجمهوري، وكذلك مع تزايد عدد المرشحين الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية، الذين يتحدون زعامته، ويبينون مثالبه. لكن الخطورة تكمن الآن في عودة روسيا إلى التهديد باستخدام السلاح النووي، إذ أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن رئيس بيلاروسيا، أليكساندر لوكاشينكو، بنقل أسلحة نووية “تكتيكية” إلى بيلاروسيا الشهر المقبل.
وعلى الرغم من أنه تهديدٌ لا يمكن أن يكون جديا، لأن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، من الجبهة المعادية لروسيا، هي الأخرى تمتلك السلاح النووي، ولا يمكن روسيا أن تتوقع أن الدول الأخرى ستبقى صامتة أمام استخدامها سلاحا نوويا، وإن كان محدودا. كذلك فإن أوكرانيا هي الأخرى تمتلك التقنية والمعرفة والقدرة على تصنيع السلاح النووي، باعتبارها كانت تمتلك ثالث ترسانة نووية في العالم حتى عام 1994 عندما سلمته لروسيا وفق اتفاقية بودابست، مقابل ضمان سيادتها وأمنها من قبل الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا. غير أن الأخيرة كانت الأولى التي تنتهك سيادتها.
توجهات الدول الأوروبية نحو تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة تبدو طويلة الأمد، وهي مبنية على مخاوف، وليس على رغبة حقيقية، لأن الدول الأوروبية مستفيدة من التحالف الأميركي معها، خصوصا فيما يتعلق بالدفاع. وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة هي الأخرى مستفيدة من التحالف الغربي لأنه يجعل سياساتها الاقتصادية والأمنية والمالية والسياسية قابلة للتنفيذ عالميا، بما فيها العقوبات التي تفرضها على الدول الأخرى أحيانا.
فإن تمكن الأوروبيون من تنسيق جهودهم، ولا شك أنهم قادرون على ذلك، خصوصا مع وجود تهديد جدي لأمنهم واستقلالهم، فإن بإمكانهم أن يكونوا قوة عسكرية واقتصادية كبيرة في العالم. وهذا القوة، إن تبلورت وتماسكت، فإنها ستبقى منسجمة ومتحالفة مع الولايات المتحدة، لِما بين الطرفين من روابطَ ثقافية وسياسية واقتصادية راسخة، وأنماط حياة متجانسة. التململ الأميركي من اتكال الدول الأخرى عليها عسكريا، سببه اقتصادي وسياسي، فإن تمكنت الدول الأخرى من المساهمة في الدفاع عن نفسها، أو على الأقل زيادة دعمها لحلف الناتو، فإن التحالف الغربي سوف يتواصل ويتعزز.
القارةُ الأوروبية التي تسببت بقيام حربين عالميتين خلال القرن الماضي، تحاول أن تتماسك لتصبح قوة موحدة. لكن هذا لن يحصل إلا بتضحيات جمة، سياسية واقتصادية وثقافية، تقدمها الدول الغربية الرئيسية، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا.