معارك جونسون و”محكمة الكنغر”
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون ضلل مجلس العموم فيما يسمى “فضائح الحفلات”.
وقبل أن تعلن اللجنة البرلمانية المختصة هذه النتيجة التي استخلصتها بعد شهور من التحقيق، قدم جونسون استقالته من منصبه كنائب عن دائرة “هيلنكدون وأوكسبريدج”. وأشعل معركة سياسية داخل حزبه وخارجه.
القيادي المحافظ، وصف تحقيق البرلمان في قضية “بارتي غيت” بـ “محكمة الكنغر”. وهو مصطلح يشير إلى أن قرار إدانة المتهم اتخذ مسبقا بغض النظر عن المعطيات والأدلة. ولأن الأمر كذلك، فضل جونسون الاستقالة على الإقالة، وأعلن حربا على خصومه داخل الحزب، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء ريشي سوناك.
الخصومة بين رئيسي الوزراء الحالي والأسبق، مستمرة بصمت منذ انتخابات زعامة حزب المحافظين على خلفية استقالة رئيسة الحكومة السابقة ليز تراس. فحينها اضطر جونسون للانسحاب من السباق لصالح سوناك حرصا على مصلحة الحزب كما قيل، ولكن يبدو أن ما كان أولوية في الأمس تراجعت أهميته اليوم.
من وجهة نظر نواب وأعضاء كثر في الحزب الحاكم، ذهب رئيس الوزراء الأسبق ضحية مكيدة حاكها سوناك عندما كان وزيرا للخزانة في حكومة جونسون. والانتقام السياسي يبقى هاجس كل مؤيد لهذه النظرية بين صفوف المحافظين. خاصة آولئك الذين ينتمون إلى أقصى اليمين، أو يرون جونسون بطل “بريكست”.
يخشى سوناك حقيقة من شعبية جونسون وحضوره بين المحافظين. فلا يوفر مناسبة واحدة للضرب في صورته. ولا يتدخل لمنع أي محاولة للنيل من رئيس الوزراء الأسبق، سواء جاءت من المعارضة أو من داخل الحزب الحاكم. الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن أبرزها أو أكثرها فجاجة، سجل في 3 واقعات رئيسية.
الأولى هي إدانة جونسون في تضليل البرلمان. فالعقوبة التي توصي بها لجنة “الامتيازات” التي تحقق في التهمة، لا تقر إلا عبر تصويت مجلس العموم. وما دفع رئيس الوزراء الأسبق للاستقالة هو خشيته من تآمر “معسكر سوناك” بين المحافظين مع المعارضة في الاقتراع، فتكون النتيجة تجريده من كرسي المجلس.
الواقعة الثانية هي “قائمة الشرف” التي يختار فيها كل رئيس وزراء سابق مجموعة ممن عملوا معه كي يصبحوا أعضاء في مجلس اللوردات. فقائمة جونسون لم تمر كما اختارها، فاتُهم سوناك بشطب أسماء منها. وهو ما دفع بنائبين محافظين إلى الاستقالة، والمجاهرة بالخصومة مع الحكومة الحالية وقيادتها.
الواقعة الثالثة هي سعي سوناك لقطع الطريق على جونسون في محاولته الترشح لمنصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي. فرئيس الحكومة يروج لوزير دفاعه بن والاس كخليفة محتمل لينس ستولتنبرغ، وقد بحث هذا الأمر مع الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته لواشنطن في السابع من يونيو الجاري.
إضافة إلى الوقائع الثلاث، احتك الخصمان في مواقف عديدة منذ وصول سوناك إلى السلطة، وسجل كل منهما انتصارات على الآخر. ورغم إدراك حلفاء الطرفين بين النواب المحافظين أن الخلاف ينعكس سلبا على الحزب الحاكم، ويقضم ثقة الشارع بقدرته على إدارة البلاد، إلا أن التوتر لا يأخذ منحا تنازليا أبدا.
حلفاء جونسون يرون في الخصومة مع سوناك حربا للولاء والإخلاص وحماية أصوات من وثقوا برئيس الوزراء الأسبق في انتخابات 2019، لينجز “الاستقلال الأوروبي”. أما معسكر رئيس الحكومة الحالية، فينظرون إلى مستقبل أكثر براغماتية في التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية وفقا لـ”المتغيرات الدولية”.
مع استقالة جونسون ونائبين محافظين خلال الأيام الماضية، وجد سوناك نفسه أمام انتخابات عامة سريعة في ثلاثة مناطق بريطانية. استطلاعات الرأي تتوقع خسارة الحزب الحاكم في هذه المعركة. والخسارة تعني مزيدا من النقمة على رئيس الحكومة، وزيادة في عدد الحالمين باستبداله قبيل استحقاق عام 2024.
والاستبدال بالنسبة لكثيرين من الساخطين على سوناك، يعني عودة رئيس الوزراء الأسبق إلى زعامة الحزب الأزرق. فهو صاحب الرواية الجذابة والخطاب المقنع لحشد الرأي العام مجددا خلف المحافظين. كما أن جونسون هو من وعد ووفى بـ”بريكست”، ونجح في محاربة وباء كورونا رغم “فضائح الحفلات”.
خشية سوناك ومعسكره من عودة جونسون، جعلتهم يبحثون في حظر ترشحه ثانية للبرلمان كعضو في حزب المحافظين. ولكن أنصار رئيس الوزراء الأسبق بين النواب حذروا من أن خطوة كهذه قد تؤدي إلى “حرب أهلية” في الحزب الحاكم، وليس من المستعبد أن تقود إلى تصدع الحزب وتفككه على المدى المتوسط.
المخاوف إزاء احتمال تصدع الحزب الحاكم في حال حظر جونسون، لا تأتي من فراغ. وهي تتردد أيضا على لسان الرئيس السابق لحزب “الاستقلال” نايجل فراج، الذي قال إنه يخطط لتحالف سياسي مع رئيس الوزراء الأسبق ونواب محافظين، لغاية “حماية مكتسبات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي”.
الواقع يقول إن مثل هذا التحالف يصعب تحقيقه قبل الانتخابات المقبلة. وتصريحات فراج هي بمثابة دعوة مفتوحة لرئيس الوزراء الأسبق، وفي ذات الوقت نوع من الدعم الإعلامي غير المباشر لجونسون بين فئات اليمين التي تميل للمحافظين أكثر من العمال. وهذه الفئات محل منافسة شديدة اليوم بين الحزبين الرئيسيين.
ما هو واضح حتى الآن أن جونسون استعان بالاستقالة للهروب من مقصلة “محكمة الكنغر” في البرلمان. لسان حال سوناك ومعسكره يقول إن هذه الخطوة تعني خروج رئيس الوزراء الأسبق من المشهد بشكل كامل، أما همسات المعسكر الآخر فتبشر بنهوض جديد لـ “فارس بريكست” بعد كبوة “بارتي غيت” وما لحق بها.
نقل عن ونستون تشرشل قوله “إن البراعة هي أن تقول لأحدهم اذهب إلى الجحيم، وتجعله يتطلع لرحلته إلى هناك”. يحتاج جونسون هذه البراعة اليوم إن كان يريد النهوض من تحت الرماد، لإقناع البريطانيين بأنه لا يزال الخيار الأفضل لهم. أما الطريق أمام سوناك فتبدو أقصر وأسهل، ولكن اليقين في السياسة وهم مكلف.