“فلسطيني”… يحارب طواحين الهواء في السلفادور!
عمار الجندي
طبع شعار “قاسٍ على الجريمة، قاسٍ على أسباب الجريمة”، مسيرة توني بلير الناجحة محلياً بطابعه منذ أواسط تسعينات القرن الماضي. فقد رفعه بنجاح قبل وصوله إلى السلطة لتحقيق جملة من الأهداف، أحدها تأكيد العلاقة الوثيقة بين الجريمة والظروف التي تتمخّض عنها. وربما لم يتخيّل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، أنّ زعيم بلاد تستشري الجريمة فيها على نحوٍ قلّما شهد العالم مثله، سيشكّك بعد ثلاثين عاماً بصحة مقولته الجوهرية.
لكن نجيب بُقيلة (41 عاماً) رئيس السلفادور، مصمّم على مكافحة الجريمة من دون معالجة دوافعها والظروف التي تساعد في حصولها، معتبراً أنّ ذلك لن يكون بلا جدوى، كقتال من يحارب طواحين الهواء، كما يُستشف من شعار بلير! انتُخب في 2019، ويعتبر نفسه “أشطر ديكتاتور في العالم”. ويطبّق منذ نحو سنتين قوانين الطوارئ، بغرض القضاء على الجريمة، بالعنف الذي لا تستطيع القيود المعلّقة، ولا السلطة القضائية التي تأتمر بأمر بُقيلة، أن تكبحه.
يتفنن في الظهور بمظهر الرجل القوي بلا حدود، على الرغم من الابتسامة الباردة التي ترتسم على وجهه في الصور الرسمية. وفاجأ الكثيرين بالمدى الذي ذهب إليه في سلطويته وحرصه على التصرّف بشكل يبتعد كل البعد عن المألوف والتقليدي. كما لفت الأنظار بقوة، بسبب حماسته لاستخدام العملات المشفّرة وبناء مدينة “البيتكوين”.
أبوه، أرماندو قطان بُقيلة، مولود في السلفادور لأبوين مسيحيين فلسطينيين، هاجرا من بيت لحم، تحوّل إلى الإسلام وصار إماماً لمسجد في العاصمة. اما ابنه نجيب، فاستهلّ صعوده السياسي بزيارة إسرائيل مع زوجته في 2018، وهو محافظ للعاصمة سان سلفادور، وفيما كان يستعد للانتخابات الرئاسية، بدعوة من الحكومة الاسرائيلية. وقضى بعض الوقت في الصلاة أمام حائط المبكى، والتقاط الصور قبالة مسجد الصخرة. وأدهشت زيارة نجل إمام مسجد فلسطيني الأصل هذه مراقبين، بينهم إسرائيليون كما تدلّ عناوين تقاريرهم الصحافية.
بيد أنّ خطوته تلك، على غرابتها لم تقتل أحداً. ولا أدّى مظهره، ببنطال الجينز، وسترة من الجلد وقبعة بيسبول استقرت على رأسه بالعكس، إلى مصادرة حرّية أحد أو ترويع عائلة وحرمان أم من ابنها. أما “قسوته” على الجريمة ففعلت كل هذا دفعة واحدة. واشتملت على الزجّ بـ 70 ألف شخص، أي نحو 2 في المئة من سكان البلاد (7 ملايين نسمة) الذكور، لفترة غير محددة من دون محاكمة في سجون مكتظة بشكل خانق، حيث يتناولون بعض الفتات ويخضعون للعقوبات بأنواعها. ثم عمد إلى بث أشرطة فيديو للسجناء العراة تقريباً، الذين يبدون ككتل من اللحم تتراكض بخوف وطاعة عمياء، بإشارة من إصبع الحارس المدجج. الغريب أنّ الموسيقى التي اختيرت كخلفية لمناظر التعذيب هذه تكاد تكون راقصة مليئة بالبهجة!
أدّت “قسوة” بُقيلة إلى خفض معدّلات الجريمة، علماً أنّ التراجع كان قد بدأ قبل وصوله إلى الحكم. وتحظى سياسة العصا هذه بقبول واسع، ليس فقط في السلفادور، بل في سائر دول القارة التي تعاني من سطوة العصابات المجرمة، مثل الاكوادور وهندوراس وغواتيمالا. وهو حافظ طيلة وجوده في السلطة على نسبة تأييد زادت على 80 في المئة، وهو إنجاز يشبه المعجزة بالنسبة إلى أي زعيم.
والأدهى، أنّ الإعجاب لم يبق محصوراً في أميركا اللاتينية. بل صار بطلاً حقيقياً لدى يمين الحزب الجمهوري في أميركا، ومؤيّدي الرئيس السابق دونالد ترامب ممن يرفعون شعار “اجعل أميركا عظيمة من جديد”. وكان بين من أشادوا بصرامته مايكل فلين، وروجر مور وماركو روبيو عضو مجلس الشيوخ، علاوة على الإعلامي اليميني توكر كارلسون الذي أجرى مقابلة معه على شاشة “فوكس”.
هذا ليس مستغرباً، فثمة تشابهات كثيرة بين بُقيلة وترامب. يزعم كل منهما أنّه عدو لدود للمؤسسة التي يريد “استعادة” بلاده من قبضتها. وهو ينادي بشعار “السلفادور أولاً” الذي يذكّر بـ “أميركا أولاً”. ولعلّه أبرع من ترامب في استغلال الوسائط الاجتماعية، ولاسيما “تويتر”. في المقابل، تنتقده إدارة الرئيس جو بايدن، وفرضت عقوبات على بعض كبار مساعديه.
إلاّ أنّ الأهم من كل هذا، هو ما إذا كان سينجح فعلاً في تفكيك العصابات واستئصال جذورها السامّة عن طريق القمع المفرط وحده!
المؤشرات لا تدعو إلى التفاؤل على هذا الصعيد. وهناك من يشكّك أصلاً في أنّ بُقيلة أراد فعلاً أن يقطع دابر الإجرام بدلاً من تهدئته وضبطه، لأنّ تقارير شتى، تصادق الإدارة الأميركية على بعضها، تفيد بأنّ الرئيس أبرم مع هذه العصابات “اتفاق عدم اعتداء” قبل تسلّمه مقاليد الحكم. ومرّت الأيام فيما كانت العلاقات بين الطرفين تتأرجح بين الهدوء والتأزّم. وتعوّدت العصابات على الرضوخ لرغبة الحكومة كلما ثارت ثائرتها من انتهاكات خطيرة. وحالما تهدأ العاصفة كانت تعود إلى سابق عهدها، فتفرض الإتاوات وتقيم حواجز تفتيش، وتقتل وتتاجر بالمخدرات الخ.
المفارقة، أنّ بُقيلة كان، على عادة الشعبويين، يهدّد ويتوّعد بالقضاء على العصابات كلما خرقت اتفاقه المفترض معها وتمادت بجرائمها. ثم كان لا يلبث أن يلزم الصمت ويتناسى وعوده. الطريف أنّ سيلفيو بيرلسكوني، أستاذ الشعبوية الراحل، ظلّ قرابة 30 عاماً يَعد بخفض الضرائب ولم يخفّضها! تضخيم الوعود والإخلال بها، هما مكونان رئيسيان لشخصية القائد الشعبوي.
في آذار (مارس) 2022 ارتكبت العصابات مجزرة راح ضحيتها ما يزيد على 76 شخصاً، ففاجأها بُقيلة بحملة بالغة القسوة، لا تزال مستمرة في ظلّ قوانين الطوارئ التي فرضها منذ ذلك التاريخ.
غير أنّ القسوة المُبَالغ فيها قد تؤدي إلى نتائج معاكسة، حتى ولو بدا أنّها تحقّق الأهداف المنشودة للوهلة الأولى. فالسجون ربما وفّرت فضاءً للعصابات كي تجنّد أشخاصاً جدداً. وخروج مجرمي السلفادور من الميدان قد يخلق فراغاً ستسعى عصابات دول مجاورة إلى استغلاله. وقد يكون الأخطر هو أنّ الأبرياء الذين يمكن أن يصل عددهم الى 20 ألف شخص، سيخرجون محطّمين، والأغلب أنّ كثيرين منهم سيتحوّلون إلى الجريمة.
تعليق القوانين وتجميد الدستور يدعوان إلى القنوط. فهذا يجعل الرئيس هو وحده القانون ومصدر الحق و”الحقيقة”. لذا كان بوسعه أن يعلن عن ترشّحه لولاية جديدة في العام المقبل، في انتهاك صريح للدستور. ومن يستطيع أن يمنعه، طالما أنّه وضع النظام الديموقراطي برمّته على الرف؟ وقد تموت الديموقراطية نهائياً إذا ما تمّ شلّها، ويصبح من الصعب إحياؤها من جديد. هذا ما تعلّمنا إيّاه تجربة البيرو التي جرّدها الرئيس ألبريتو فيجوموري من الديموقراطية بحجة محاربة الإرهاب، فأطلقت يده، واستغلّ صلاحياته حتى أُطيح في 2000 بعد إدانته بالتورط بالفساد. هو الآن في السجن وبلاده تتعثر، ولم تشفَ تماماً بعد 20 عاماً من رحيله!