سراب “الثورة الدائمة”: نهاية تروتسكي والإخوان
يعرف القارئ لتاريخ الحركة الاشتراكية والشيوعية في العالم خلال القرن العشرين جيداً اسم “ليون تروتسكي”، كواحد من رموزها الكبار، وخصوصاً في الثورة الشيوعية في روسيا في أكتوبر عام 1917 وما سبقها من تأسيس الحركة الشيوعية، وما تلاها من قيام الاتحاد السوفيتي
تروتسكي هو اسم حركي لشاب روسي ولد عام 1879، انضم للحركة العمالية الشيوعية في روسيا في بدايات القرن العشرين، وقاد مع زعمائها الآخرين الثورة التي أطاحت بالحكم القيصري وأسست أول دولة شيوعية في التاريخ البشري. وقد شغل تروتسكي بعد نجاح الثورة عدة مواقع ومناصب مهمة في الحزب الشيوعي والحكومة، منها مفوضية الحرب ويعد من خلالها مؤسس الجيش الأحمر السوفيتي، وكذلك عضوية المكتب السياسي في الحزب الشيوعي البلشفي وقت حكم زعيمه وزعيم الثورة فلاديمير لينين، الذي عينه أيضاً في منصب مفوض العلاقات الخارجية في حكومته البلشفية الأولى عام 1917. وكان الشائع في هذه الفترة أن تروتسكي هو الخليفة المنتظر والمؤكد بعد لينين زعيم الحزب والثورة نظراً لقربه منه وتوليه كل هذه المناصب المهمة في الحزب والحكومة.
إلا أن الرياح أتت بعد وفاة لينين عام 1924 على عكس هذا تماماً. فقد تولى زعامة الحزب والدولة جوزيف ستالين، المقرب أيضاَ من لينين والذي شغل منصب سكرتير عام الحزب الشيوعي منذ عام 1922، ليخلف لينين بعد وفاته في كل مناصبه، وليبتعد تروتسكي بقوة عن كل هذا، ويندلع خلاف دموي بينه وبين قائد الدولة الجديد.
مأساة تروتسكي بدأت قبل هذا ببعض الوقت، حيث اقتنع وتبنى مفهوم “الثورة الدائمة والعالمية”، والذي يعني ببساطة أن يتواصل العمل من أجل قيادة وتفجير ثورات مستمرة متزامنة، ليس في روسيا فقط، بل في كل دول العالم حيث توجد الطبقات العاملة، بحيث تتواصل جميعاً معاً وتتساند سعياً لتغيير العالم نحو الشيوعية دون إبطاء لبلد عن الآخر.
واختلف ستالين مع هذه الرؤية بشدة وبحدة، وكانت النتيجة الصدام بين الرفيقين السابقين، مما نتج عنه نفي تروتسكي خارج الاتحاد السوفيتي عام 1929، ليطوف بكثير من دول العالم بعدها بحثاً عن إشعال “الثورة الدائمة والعالمية”. وأثناء إقامته بباريس عام 1938، أسس تروتسكي الحركة “الأممية الرابعة”، لتكون أداته لتحقيق هذه الثورة عبر العالم كله. وظل الرجل يلهث لأكثر من عشرة أعوام في المنفى بين بلدان عديدة وراء “الثورة الدائمة والعالمية”، لينتهي به الأمر مغتالاً في المكسيك عام 1940، بترجيحات أن هذا تم بترتيب وأوامر من رفيقه القديم جوزيف ستالين.
حال تروتسكي ونهايته الشخصية ونهاية فكرته وحلمه حول “الثورة الدائمة والعالمية”، يشبه كثيراً حال جماعة الإخوان الراهن، بعد إسقاط الشعب المصري لحكمها البائس لبلده بثورته العظيمة في 30 يونيو 2013. ففرق الجماعة وقياداتها المتفرقة المتصارعة خارج مص في عدد من الدول، لا تختلف كثيراً عن تروتسكي في لهاثها المحموم وراء ما يعتقدون أنه “الثورة الشاملة القادمة” في مصر، بعد فقدان الحكم والسلطة اللذان سيطروا عليهما لوهلة قصيرة، تماماً كما حدث مع تروتسكي. وعلى الرغم من أن إعلام الجماعة الموجه من خارج مصر – كما أوضحنا في مقالنا السابق – قد حل محل الجماعة نفسها بكل فرقها ورؤوسها، إلا أن الحلم التروتسكي ظل مخيماً ومهيمناً على أداء هذا الإعلام وبقايا وفرق الجماعة طوال السنوات العشر الماضية وحتى اليوم دون توقف.
لم يبق من الحركة التروتسكية في عالمنا اليوم وبعد كل هذه السنوات، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي، من شيء يذكر له علاقة بالحياة على مستوى العالم كله، فقط ذكريات وأفكار وخيالات من تاريخ مضى وانقضى. ويبدو غير بعيد عن هذا أن جماعة الإخوان بسلوكها التروتسكي بامتياز، ماضية وبسرعة هائلة في نفس المسار، الذي تتضح ملامح نهايته تدريجياً: سعي محموم ولهاث لا يتوقف وراء سراب بعيد في صحراء التآكل والنفي والانقسام، “الثورة الدائمة والعالمية”، يعقبه وسيعقبه الخروج النهائي والتام من الواقع الحقيقي، وفقط بقاء ذكريات وأفكار وخيالات التاريخ الذي مضى وانقضى إلى الأبد.