الحشاني رئيس حكومة بمهمة واضحة: تفكيك اللوبيات
في وقت كان المتابعون للشأن السياسي التونسي ينتظرون تعديلا وزاريا بهدف حل أزمة التمويلات الخارجية وإذابة الجليد مع صندوق النقد الدولي، جاء التعديل، ولكن هذا التعديل لم يكن واسعا واقتصر على رئيسة الحكومة نجلاء بودن في رسالة ضمنية مفادها أن الحكومة تحتاج إلى نفس جديد وشخصية جديدة.
لكن بأي مهمة، وأي هدف؟
الرئيس قيس سعيد يرى أن الأولوية داخلية وليست خارجية، أو أن رئيس الحكومة مهمته داخلية بالأساس والملفات الخارجية يعود فيها القرار إلى رئيس الجمهورية، وهو من يحسم أمر التعامل مع صندوق النقد الدولي بالرفض أو الاتفاق، وهو من يتولى جلب التمويلات الخارجية من خلال علاقاته وتحركاته، ثم يكون دور الحكومة لاحقا من خلال خطوات إجرائية لتنفيذ ما يتم الاتفاق بشأنه وترتيبه مثلما حصل في الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة.
قال قيس سعيد في موكب تعيين رئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني الأربعاء إن من أهم التحديات مواجهة “إرهاب الكرتلات”، في إشارة إلى لوبيات الإدارة التي تقف وراء أزمة النقص في عدد من المواد الاستهلاكية بالأسواق.
لا ينكر الرئيس سعيد وجود أزمة تمويلات، لكنه يعتقد أن أزمة الخبز والكهرباء والماء التي هزت الشارع التونسي قبل أسبوعين لا تتعلق بأزمة تمويلات ولا عملة صعبة، ولا بندرة السلع، ولكن بوجود أياد خفية تلعب بهذه المواد الحساسة لإرباك السلطة وتحريك الشارع ضدها بعد أن فشلت تلك الأيادي في تحركات سياسية سابقة في لفت نظر الناس أو كسب تعاطفهم.
وقال سعيد “ما يعيشه الشعب اليوم هو محاولة لتأجيج الأوضاع الاجتماعية من ترتيب هذه اللوبيات”.
وأضاف “لا مجال للتسامح مع هؤلاء أبدا ولا بد من محاسبتهم. من يتلاعب بقوت الشعب وبالسلم الأهلي الداخلي لتونس سيدفع الثمن باهظا بناء على القانون وفي ظل محاكمة عادلة”.
رئيس الحكومة الجديد موظف خبير بدهاليز الدولة، وقد يحتاجه الرئيس في الوصول إلى ما يصر قيس سعيد على توصيفه بالتلاعب أكثر منه أزمة اقتصادية سببها ضعف الموارد.
لكن المهمة تظل غامضة ما لم يتم تحديد عناصرها، هل المقصود هو تنحية المسؤولين الذين تم تعيينهم في سنوات ماضية من أبناء الإدارة على رأس مؤسسات وطنية كبرى، خاصة المؤسسات المعنية بتوريد الحبوب وتوزيع الطاقة والكهرباء والمياه، فهذه مهمة سهلة، إذ يكفي تغيير المسؤولين الكبار كما حصل بإقالة الرئيس المدير العام لشركة توزيع المياه.
وهل المقصود البحث في سجلات الموظفين والمسؤولين عن الهوية السياسية لكل موظف وتنحية المناوئين أو إبعادهم عن المؤسسات الحساسة طالما أن الإدارة يجب أن تكون تابعة للسلطة السياسية، كما أشار إلى ذلك الرئيس سعيد منذ أيام.
الحقيقة أن هذه مهمة معقدة ومحفوفة بالكثير من المحاذير. أول هذه المحاذير أن الدولة تنظر إلى شهادات الموظفين ودبلوماتهم وتخصصاتهم، وأدائهم وليس لأفكارهم طالما أن تلك الأفكار لا تعيق العمل أو تربكه.
وهذا وضع لا يمكن تقييمه من خلال شهادات أو وشايات شخصية من داخل محيط العمل، وإنما عبر ملفات إدانة يكون القضاء هو الفيصل فيها، أساسا في ما يتعلق بموضوع العرقلة والتعطيل في ملف الخبز بصفة أساسية في ظل حديث عن تقصير وسوء إدارة في توزيع الدقيق المدعوم ومنحه لجهات لا تستحقه، وهل لذلك ارتباط بالفساد أم بالموقف الحزبي، هل المؤامرة مرتبطة باستغلال ضعف الدولة لتحقيق الثراء أم بوجود خلايا حزبية تريد ركوب موجة التعطيل لإرباك السلطة والتشكيك في قدرتها على توفير ما يحتاجه الناس؟
وهناك مخاوف من أن تطلق السلطة أنصارها لتتبع مواقف الموظفين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يكون ذلك حجة على المعارضة أو الولاء، وهو أمر إن حصل سيمسّ حرية التعبير كأهم مكاسب لثورة 2011، خاصة أن هذه المواقع باتت متنفسا للمواطنين ككل للتعبير عن مواقفهم وتقييمهم لعمل المؤسسات، وأي تراجع عن هذا المكسب سيعد انتكاسة.
طبعا لا يمكن إنكار حق الإدارة في أن تواجه الثلب والتشويه وهتك الأعراض والخصوصيات الشخصية باللجوء إلى القضاء.
من حق الدولة أن تحمي نفسها ومؤسساتها وتؤمّن طريق عمل الحكومة، ولكن وفق معطيات دقيقة لحساسية التخلي أو تسريح الموظفين في بلد يعيش الناس فيه على حلم الدخول إلى القطاع الحكومي لتأمين المستقبل المهني.
وهناك عنصر مهم آخر، وهو أن رئاسة المؤسسات الحكومية تحتاج إلى أبناء الإدارة لكونهم عارفين بتفاصيلها ومزاج أهلها وطرق تطويق التجاوزات، وليس من السهل تنحية هؤلاء والتفكير في جلب آخرين من خارج الإدارة لكونهم من أنصار الرئيس والمتحمسين لمشروعه، فالحماس وحدة لا يكفي، فضلا عن أننا سنسقط في ما كنا ننتقد فيه من سبقوا بالحكم بأنهم عملوا على إغراق الإدارة بالتعيينات الحزبية وبالموالين والمقربين.
ومثلما أن الانتماء الحزبي أو الموقف السياسي لذاته ليس مشكلة، فإن الانتماء النقابي حق طبيعي لأيّ موظف، لكن المشكلة في أن هذا الحق تحول ما بعد 2011 إلى مدخل كبير لإرباك الدولة ومؤسساتها وزيادة الأعباء المالية عليها. فهل معركة تفكيك “لتكتلات واللوبيات ستطول النقابات، التي باتت تتحكم في التعيينات فتقبل بهذا وترفض ذاك، وهي تطالب بأن تشركها السلطة في اختيار المسؤولين على الإدارات الصغيرة قبل الكبيرة؟ ورأينا في السابق إضرابات كثيرة لمجرد رفض النقابة تعيين مسؤول من غير صفها على رأس مؤسسات الدولة.
تبدو خطة التفكيك شاملة لجميع قوى التأثير داخل الإدارة، وهو ما أشار إليه قيس سعيد في موكب تسليم الحشاني رئاسة الحكومة.
ونقلت وكالة تونس أفريقيا للأنباء، الوكالة الرسمية، عن الرئيس سعيد قوله “من الواجب وقف التواكل والوقفات الاحتجاجية والقطاعية وتعطيل عمل المستشفيات أو المدارس (…) هذه الظاهرة انتشرت بعد 2011، وتم احتواء المد الثوري عبر المنح والمقاربات القطاعية والمفاوضات، وكأن الدولة تدار بمحاضر الجلسات”.
ويظهر هذا الكلام أن الرئيس سعيد لن يسمح في المستقبل لأيّ لوبيات بأن تتحكم في الدولة، وأن الاتحاد ليس خارج هذا التصنيف خاصة أنه شريك مباشر في تعقيدات الأزمة من خلال فورة الإضرابات والضغط على الحكومات لتأمين زيادات ومزايا لا تتحملها إمكانيات البلاد.