هل تحتاج ديمقراطية تونس إلى تدخل الغرب
يعتقد بعض المعارضين التونسيين أن التضخيم الإعلامي والسياسي لموضوع التوقيفات سيدفع إلى ضغوط خارجية على الرئيس قيس سعيد. الاعتقاد قديم، وهو مزروع في وعي المعارضين من إسلاميين ويسار وقوى وسط اجتماعي من فترة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. فهل ينسحب الأمر على قيس سعيد، وهل مازالت للغرب مصداقية كافية تتيح له أن يضغط أو يتوسط لإطلاق سراح من تم توقيفهم من محامين أو إعلاميين أو سياسيين؟
يبدو أن المعارضة تراوح مكانها بالرغم من أن الدنيا تغيرت كثيرا، وأن ثورة 2011 ساهمت في كشف الكثير من الحقائق والوقائع، وخاصة في فهم حدود دور الغرب وعلاقته بالديمقراطية وحدود التغيير الذي يأتي من ورائها.
يمكن أن نفهم موقف المعارضة في السابق حين كانت تراهن على الغرب قبل أن تختبر مواقفه ومقاربته للديمقراطية في الشرق الأوسط، وهي مواقف تقوم على اعتبار الديمقراطية بمثابة عصا تلوّح بها بعض الدول النافذة في وجه الأنظمة التي لا تسير على “الدرب السوي”، أي أنها لا تسير كما يراد لها ولا تنفّذ ما يطلب منها، وتبحث لنفسها عن هامش من حرية الحركة والعمل للحساب الخاص.
بعد ثورات “الربيع العربي” وتعقيداتها تم اختبار موقف الغرب وبان جليا بأن الديمقراطية المثالية غير موجودة مطلقا، وأن الأمر مرتبط بالمصالح، ويتسم بالتحرك صعودا ونزولا بقياس الظرف والطرف المستفيد. والأمر نفسه بالنسبة إلى حقوق الإنسان وحرية التعبير ووضع الصحافة، وما الإرباك الغربي في مواجهة ما يجري في غزة سوى عينة واضحة.
الفكرة هنا ليست التشكيك في قناعة الغرب بالقيم التي صنعها بنفسه، وهل هي صالحة للجميع أم شأن داخلي يتم قياس امتداده الخارجي حسب الوضع، ولكن تبديد فكرة أن الغرب سيتدخل أو يضغط أو يلوّح بالضغط لفائدة أطراف تونسية لمجرد أنها تطالب بالديمقراطية أو تتشكى من توقيفات وتضييقات على حرية الرأي والتفكير. أحيانا يثير الأمر السخرية لكثرة حدوثه بأوضاع متشابهة من دون أخذ العبرة منه.
هل الغرب فعلا قادر على الضغط على قيس سعيد، وهل المواقف التي صدرت عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا، وبعض المنظمات التي دأبت على كتابة بيانات مكررة بنفس الصيغ وصالحة لكل زمان ومكان، ستدفع الرئيس التونسي إلى التراجع والتخفيف في استهداف من يعتبرهم خصوما أو أطرافا تتحدى الدولة؟
أولا؛ موقف قيس سعيد من رفض تدخلات الخارج ليس مفاجئا، وسبق أن عبّر عنه في أكثر من مرة، والولايات المتحدة وأوروبا يعرفان هذا. وموقفهما بشأن توقيف محامين وإعلاميين ليس أكثر من تسجيل حضور في حركة أشبه بتقليد المعايدة الذي تقوم به شخصيات رسمية أو مؤسسات بأن ترسل في كل مناسبة تهنئة بنفس المفردات وبنفس الاقتضاب والبرود. ولن يتطور الموقف الغربي لأكثر من بيانات أو تصريحات من مسؤولي الصف الثاني. وقيس سعيد يتصرف وفق هذه القناعة.
ثانيا؛ موضوع حقوق الإنسان آخر اهتمام الدول الغربية إذا تعارض مع أجنداتها في المنطقة، فالولايات المتحدة مشغولة بمسائل أهم من مناكفة قيس سعيد منها الترتيبات الأمنية في شمال أفريقيا وتمركزات روسيا في ليبيا ودول جنوب الصحراء، وهي تحتاج إلى تونس في مقاربتها الأمنية وتحركات قوات أفريكوم وتدريباتها بانتظار حسم مقرها الإقليمي هل سيكون في ليبيا قبالة حدود تونس أم في مكان آخر من دول شمال أفريقيا بعد مطالبة الجنود الأميركيين بالانسحاب من النيجر وتشاد.
هناك اهتمام أميركي بتونس، وهناك تدريبات مشتركة ثنائية وجماعية، وبالتأكيد لن يؤثر فيها موضوع حقوق الإنسان من قريب أو بعيد، هذا إذا افترضنا أن واشنطن حريصة على أن تعارض بشكل واضح أيّ تجاوزات في هذا المجال من الأصدقاء قبل الخصوم.
وسبق أن قال الرئيس سعيد الخطاب الرافض لأيّ تدخل خارجي في شؤون تونس، خلال لقائه بمساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف في زيارتها إلى تونس، حين أكد “تمسّك تونس بسيادتها ورفض التدخل في شؤونها الداخلية”، وأعرب عن “الاستياء من التصريحات التي أدلى بها عدد من المسؤولين الأميركيين في المدّة الأخيرة”. وسمعت واشنطن الكلام من دون تعليق ولا ردة فعل.
وبالنسبة إلى أوروبا، فما يهمّها أن تونس طرف رئيسي في مقاربتها لمواجهة الهجرة غير النظامية، وهي تعمل على إقناع قيس سعيد بتعاون أكبر من خلال وعود الدعم والتمويلات الخاصة بتحسين كفاءة قوات الأمن التونسية في مواجهة تدفقات المهاجرين. هذه أولوية أوروبية رئيسية وموضوع حقوق الإنسان عنصر ثانوي فيها على الأقل في الوقت الحالي.
والمفارقة أن أوروبا نفسها باتت تتضايق من فائض الحريات طالما أنه يقف بوجه حملتها للحد من تدفقات المهاجرين. فصعود اليمين على نطاق واسع سيدفع إلى تغيير مقاربة حقوق الإنسان بشكل نوعي.
لا يفهم مما سبق تبرير القفز على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، ولكنها دعوة إلى النخب التي ما تزال تنظر إلى هذا المبحث من منظور غربي إلى إجراء مراجعة لمسارات عقود من تجرب المعارضة التونسية. فهل أن الديمقراطية تعني فقط السباق إلى السلطة، وهي الوجه الوحيد الذي يتطلب النضال. أليست هناك مجالات يمكن الاشتغال عليها لإحداث التغيير؟
لماذا يرفع الجميع الشعار/الأثر “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”؟، أي التغيير الفوقي بالقوة والسرعة واستعجال النتائج من دون التفكير في تغيير هادئ ومضمون النتائج يطال البنى الذهنية والثقافية والقيمية بالتوازي مع تطوير واقع الناس وظروف عيشهم.
ألم يكن من الممكن أن تفتح تجربة ثورة 2011 مقاربة جديدة تجعل للمعارضة مجالات تحرك جديدة من مثل الحرب على الفساد وتفكيك اللوبيات وإعادة تصويب دور الدولة/السلطة من أجهزة صلبة لحامية مصالح اللوبيات والأجندات الخارجية إلى كيان هدفه إحداث التوازن الاجتماعي بإنصاف الفئات الضعيفة وتحسين شروط عيشها دون المساس من مصالح الفئات المتنفذة تاريخيا ما لم يكن على حساب الدولة أو مستهدفا لمصالح الآخرين.
بعض القوى التي حكمت بعد 2011 بشكل مباشر أو في شكل تحالفات لم تبادر إلى المس من التوازنات القديمة، التي كانت في صالح اللوبيات، وعلى العكس، فقد سعت بعض تلك القوى إلى طمأنة المتنفذين ووضع بعض الأحزاب ونواب في البرلمانات الماضية على ذمة هؤلاء، حتى أن حزبا مثل حركة النهضة سعى في الانتخابات المحلية إلى ترشيح أبناء أو مقربين من رجال أعمال في رسالة لتأكيد أن لا نية للمساس بمصالحهم بأيّ شكل مقابل القبول بفكرة بقاء الحزب في السلطة.
أيهما أولى بالنضال السباق إلى السلطة عبر أشكال وأدوات ضغط تقليدية لم يعد لها أيّ مفعول أم العمل على بناء الديمقراطية الاجتماعية ذات النفس الطويل والخادمة للناس.
تنظر المعارضة باستخفاف واستعجال لشعبية قيس سعيد، وكأن الشارع الذي انتخبه “رعاع” و”دهماء” و”عامة” مع أن نفس هذا الشارع هو من انتخبهم وصفق لهم وفرش لهم طريق الحكم من دون أن يحققوا نتائج ترضيه، فغيّر خياره نحو قيس سعيد الذي يظهر خطابه قدرة على فهم حاجيات الناس من دون الاتكاء على نظريات أو مقولات قديمة.
الديمقراطية التي تهم الناس هي ما تحتاج الاشتغال عليها والنضال لأجلها، وربما كانت تشكل أرضية مشتركة بين مختلف الفاعلين بعد انتخابات 2019 لولا استعجال خطاب الغلبة لدى البعض.