فرصة بايدن الثالثة والأخيرة
لم يعد أمام الرئيس الثمانيني جو بايدن فرص كثيرة، في مناحي الحياة عموما وفي السياسة وعوالمها المختلفة تحديدا.
فعندما يصل الشخص منا إلى أرزل العمر، فإنه وبحكم المنطق والقوانين الإلهية، إما أن يعيش ما تبقى له من سنوات معدودة استمتاعاً بفرص استغلها، وإما حسرة على فرص أهدرها، وإما بمزيج بين هذا وذاك.
لكن من المستبعد أن يكون في وضع يسمح له بالبحث عن طموح جديد أو عن فرصة أخرى قد يستغلها أو يهدرها، ولكن يبدو أن القدر قد أتاح للرئيس الأمريكي جو بايدن هذه الأيام فرصة ثالثة وأخيرة، استغل الأولى قبل أربع سنوات وأصبح وهو الباهت انتخابياً، رئيساً لأمريكا، فقط لأن منافسه كان دونالد ترامب، ففوزه لم يكن عن جدارة انتخابية بقدر ما كان رغبة في هزيمة ومعاقبة منافسه.
وأهدر الفرصة الثانية عندما دخل البيت الأبيض في ظروف قد تبدو صعبة داخليا بسبب الأجواء التي صاحبت الانتخابات التي جاءت به للمكتب البيضاوي والتشكيك الذي تم في نزاهتها، وما تلاها من هجوم على مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، وما أحدثه من جرح عميق في النسيج الأمريكي.
لكن هذه الظروف رغم صعوبتها منحته فرصة هائلة وأكسبته شعبية مجانية مسبقة حتى قبل أن يباشر مهام عمله، وأعطته رصيداً من تأييد مسبق لم يُبن على قرارات اتخذها، لكن افتراضاً من تمايز واختلاف عن سلفه الذي وجهت إليه وحده سهام النقد فيما أصاب الديمقراطية الأمريكية، ووجهت إليه أصابع الاتهام بالمساس بهيبة أمريكا وصورتها الخارجية.
دخل بايدن البيت الأبيض باعتباره الرئيس المنقذ المطالب بإعادة التلاحم الاجتماعي، وإنهاء الانقسام المجتمعي، ورأب الصدع الذي تسببت فيه ممارسات سلفه داخلياً، واستعادة هيبة أمريكا العظمى خارجياً التي تضررت من “مغامرات” ترامب كما يصفها منتقدوه.
إذن لم يكن مطلوباً من بايدن سوى شيء واحد، وهو ألا يكون دونالد ترامب، وهي ربما تكون أسهل مهمة لرئيس أمريكي على الإطلاق، لكنه فشل في ذلك وأهدر الفرصة وأثبت أنه مجرد نسخة يسارية من الترامبية، والشواهد على ذلك كثيرة داخلياً وخارجياً.
فماذا عن الفرصة الثالثة؟ هل ستكون مثل الأولى استغلالاً، أم ستكون مثل الثانية إهداراً؟
الفرصة الثالثة التي أتحدث عنها هنا لا تعني بكل تأكيد فرصة الفوز بفترة رئاسية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني، المقبل كما قد يتبادر إلى أذهان القراء للوهلة الأولى، فهي فرصة تبدو بحكم المنطق شبه منعدمة، إلا أذا عدنا لزمن الأساطير والمعجزات، خاصة بعد الأداء الكارثي في المناظرة الانتخابية الأولى الخميس الماضي، الذي أثبت أنه لم يعد صالحاً للبقاء في هذا المنصب أو أي منصب آخر بعد أن بدا ظلاً للرئيس وشبحاً لسياسي سابق، وفشل باقتدار وسبق إصرار في إثبات كفاءته الذهنية على الأقل، للبقاء في المنصب الأهم في العالم.
إذن الفرصة ليست في خوض الانتخابات والفوز بها كما كانت الأولى، إنما هذه الفرصة الأخيرة قد تكون على النقيض تماما، وتتمثل في قرار شجاع منه بالانسحاب من سباق الانتخابات وإعطاء الفرصة لحزبه باختيار مرشح آخر يكمل السباق في مؤتمر الحزب في أغسطس/آب المقبل، فهناك قادة ديمقراطيون مجهزون بشكل أفضل، وقادرون على منافسة ترامب رغم ضيق الوقت، وقادرون على تقديم بدائل واضحة ومقنعة وحيوية لرئاسة ترامب الثانية.
هي فرصة ثالثة وثلاثية، هي فرصة أولا لإنقاذ سمعة جو بايدن وتاريخه الطويل في العمل السياسي، المحلي والفيدرالي، التشريعي والتنفيذي، وهي فرصة ثانيا لإنقاذ حزبه ومستقبله وتماسكه وفرصه، لا فقط في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن في كثير من الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وهي ثالثا وأخيرا فرصة لإنقاذ الديمقراطية الأمريكية نفسها، فإذا كان كثير من الأمريكيين، خاصة من أنصار الحزب الديمقراطي، يعتبرون أن دونالد ترامب يشكل خطرا كبيرا على تلك الديمقراطية وعلى مستقبلها، فلا يوجد سبب منطقي واحد يدعو الحزب للمخاطرة باستقرار وأمن وتماسك وديمقراطية أمريكا من خلال إجبار الناخبين على الاختيار بين أوجه القصور التي يعاني منها ترامب وأوجه القصور التي يعاني منها بايدن.
فهل يهدر بايدن هذه الفرصة كما أهدر سابقتها، أم سيستغلها إنقاذا لنفسه ولتاريخه وحزبه وبلاده؟ ظني وأتمنى أن يخيب، أنه سيهدرها.