المُعارَضة الإسرائيلية تُغطّي قذارة الفاشيّة الأصوليّة
لم يكن قرار “الكابينت” الإسرائيلي تشريع بناء خمس مستوطنات جديدة، ما رفع عدد المستوطنات التي بنتها الحكومة الحالية إلى 15، بالإضافة إلى بناء 21 ألف وحدة استيطانية، وتحويل 26 ألف دونم إلى أراضي دولة لتخصيصها للمُستوطِنين والمُستعمِرين، ومصادرة 12.5 كيلومتراً مربعٍاً من أراضي الأغوار، التي تُشكّل أكبر عمليةِ مصادرةٍ منذ توقيع اتفاق أوسلو، إلى جانب عدة قرارات استراتيجية إسرائيلية.. لم يكن آخر قرارات “الكابينت”، إذ أضيف إليه قرار سلب الصلاحيات المدنية في ما تُسمّى مناطق “ب” من السلطة الفلسطينية، بعد أن سلب الاحتلال منها السيطرة الأمنية على مناطق “أ”، وذلك يعني أنّ حكومة إسرائيل تستطيع ليس بناء ما تشاء من المستوطنات فقط، بل وهدم كلّ ما تشاء من البنايات والمنشآت الفلسطينية في 82% من الضفّة الغربية.
ولمَنْ لم يعاصر اتفاق أوسلو (1993)، نُذكّر بأنّه نصّ على ترتيبات مُؤقّتة تُمنَح من خلالها السلطة الفلسطينية السيطرة الأمنية والمدنية على مناطق “أ”، التي تُشكّل حوالي 18% من مساحة الضفّة الغربية، والسيطرة المدنية على مناطق “ب”، التي تُشكّل حوالي 18% أخرى. في حين بقيت السيطرة الأمنية والمدنية الكاملة في 62% من الضفّة الغربية، بما فيها مناطق “ج”، بما في ذلك منطقة القدس، بيد إسرائيل. ولتبرير ذلك التقسيم العجائبي، قيل إنّ المفاوضات ستؤدي إلى نقل مزيد من الأراضي من مناطق “ج” إلى منطقتي “ب” و”أ”. ومنذ عام 2006، لم تُنقَل أيّ مناطق إلى السلطة الفلسطينية، بل بدأ تقليص صلاحياتها الأمنية في المنطقة “أ”.
وأخيراً، نجح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وووزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أخذ كلّ شيء، وحشر السلطة المدنية الفلسطينية في أقلّ من 18% من أراضي الضفّة الغربية مقطّعة الأوصال في بانتوستانات ومعازل. وهذا ما قصده وزير المالية الإسرائيلي، والحاكم الفعلي للضفّة الغربية، المستوطن الفاشي سموتريتش، عندما قال إنّ حكومته “غيّرت نظام الاحتلال كلّه في الضفّة الغربية، وألقت بمفهوم الدولة الفلسطينية إلى مزبلة التاريخ”. والواقع أنّ الذي أُلقي به إلى مزبلة التاريخ هو اتفاق أوسلو، وكلّ وهم بإمكانية الوصول إلى حلٍّ وسطٍ مع الحركة الصهيونية عبر التفاوض.
مضمون الإجراءات الإسرائيلية التي صمّمها وقادها نتنياهو، العدوّ الأكبر لفكرة الدولة الفلسطينية، هو الضمّ الفعلي والتهويد التدريجي عبر الاستيطان الكامل للضفّة الغربية، بالتوازي مع إعادة احتلال قطاع غزّة عبر الإبادة الجماعية. ليس مفاجئاً أن يقوم نتنياهو وحكومته الفاشيّة الأصولية بذلك كلّه، فهو يُنفّذ برنامجه المُعلَن منذ 1994، ولكنّ الغريب والمُقزّز هو ما يقوم به بعض أركان المُعارَضة الصهيونية، الذين يواصلون الادّعاء أنّهم مع حلّ الدولتَين، ولكنّهم يواصلون تغيير وتكييف هذا الشعار ليتناسب مع كلّ توسّع استيطاني. وهم جميعاً ممّن بدأوه وشاركوا في توسيعه، سواء عندما كانوا في حكومات حزب العمل أو حكومة إيهود أولمرت أو ائتلافات الليكود مع شمعون بيريز. هؤلاء جميعاً، مثل صفقة القرن التي طرحها ترامب، يريدون تكييف الكيان الفلسطيني ليتناسب مع ثلاثة أمور.
أولاً، بقاء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلّة تحت سيطرة الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية، محروماً من حقّ تقرير المصير، وراضخاً لمنظومة الأبارتهايد العنصرية الإسرائيلية. ثانياً، تشريع كلّ مستوطنة استعمارية قائمة، وإبقاء الباب مفتوحاً للتوسّع الاستيطاني. ثالثاً، تحويل الضفّة الغربية من أرضٍ فلسطينية مُحتلّة فيها أجسام غريبة، هي المستوطنات، إلى أرضٍ إسرائيلية فيها أجسام فلسطينية غريبة، هي المدن والقرى الفلسطينية. وبذلك يُفصَل السكّان الفلسطينيون عن أرضهم المُصادَرة والمُستباحة من منظومة الاستعمار الاحتلالي الصهيوني، وتحويل فكرة الكيانيّة الفلسطينية كيانيّةً سكّانيةً وليس كيانيّةَ أرضِ دولةٍ وحقٍّ في تقرير المصير.
ما هو الحلّ الذي تُقدّمه المُعارَضة الصهيونية الزائفة للمعضلة الديمغرافية الفلسطينية، أي السكّان؟… يريدون فرض ترتيبات تجعل السكّان المُقيمين في الضفّة الغربية “مواطنين أردنيين”، في حالةِ وجودٍ مُؤقّتٍ في أرض فلسطين، مع الاستمرار بالضغط عليهم لترك وطنهم فلسطين. وتمثّل هذه المقترحات، التي تأتي من جهة ما يُسمَّى “اليسار الصهيوني”، إعادة تدوير خطّة الليكود القديمة والمُتطرّفة بأنّ الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، وتتجاهل أنّ الأردن لم يوافق يوماً، ولا يستطيع الموافقة، على مثل هذه الحلول التصفويّة، التي تضرّ بمصالحه، كما تضرّ بحقوق الشعب الفلسطيني. وهي لا تُمثّل سوى محاولةً وقحةً ممّن يُسمُّون أنفسهم “المعارضة الصهيونية” للتغطية على قذارة الفاشيّة الأصولية، وسعيها إلى ضمّ وتهويد جميع أراضي فلسطين، وتهجير كلّ من بقي من أهلها الأصليين، في استكمالٍ شرسٍ للمشروع الاستيطاني الإحلالي.
ويعيدنا ذلك إلى مناقشة بعض المفاهيم الأساسية؛ هل حقّاً يمكن للصهيوني أن يكون “يسارياً أو ديمقراطياً” بالمفهوم الحقيقي للكلمة؟… الصهيونية تنتهج التمييز العنصري، لأنّها تؤمن أنّ شعباً بعينه هو “شعب الله المختار”، ومُفضَّل على سائر شعوب الأرض، وتفترض وتصف من ليسوا يهوداً بـ”الأغيار”، وتضع حاجزاً نفسياً واجتماعياً وسياسياً بين اليهود الإسرائيليين في فلسطين والفلسطينيين الأصليين، وترفض مساواتهم حتّى لو كانوا يحملون الجنسية الإسرائيلية. وذلك هو مضمون قانون القومية الذي شرّعه الكنيست الإسرائيلي، والذي ينصّ على أنّ حقّ تقرير المصير في أرض فلسطين التاريخية التي يسمُّونها “أرض إسرائيل” هو لليهود فقط. وكيف يمكن للإنسان أن يكون ديمقراطياً عندما يحصر الحقوق الديمقراطية الكاملة في جنسٍ أو دِينٍ دون الآخرين ممّن يعيشون في نفس المكان، وينتمون إلى شعبٍ أو دِينٍ آخرَين؟ وهل يمكن أصلاً الادّعاء بأنّ إسرائيل “ديمقراطية”، بل والادّعاء أنّها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، وهي التي تمارس التطهير العرقي منذ 76 عاماً، واحتلال الضفّة والقدس وقطاع غزّة منذ 57 عاماً، وتُوسّع منظومة الأبارتهايد الأسوأ في تاريخ البشرية، بل وتضيف إلى ذلك ثلاث جرائم حرب، بالتوازي، في قطاع غزة: الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والعقوبات الجماعية، بما في ذلك تجويع شعب بأكمله.
ولا يمكن لأيّ إنسان أن يكون يسارياً أو ديمقراطياً من دون أن يرفض المشروع الاستعماري الإحلالي الإسرائيلي برمّته، ومن دون أن يطالب بفرض العقوبات على منظومة الإبادة الجماعية والاحتلال والتطهير العرقي، التي تُمارَس ضدّ الشعب الفلسطيني.