أميركا الخائفة واستشرافات أليسون
منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، عرفت العاصمة الأميركية واشنطن، صنوفًا وألوانًا من الحواجز المرورية، والمتاريس الأسمنتيّة، خوفًا من فكرة الإرهاب الخارجيّ، والهجوم غير المتوقّع من جديد.
غير أن المتابع للعديد من وسائل الإعلام الأميركية في الأسبوعَيْن الأخيرين، يرصد نبرة واضحة لمشاعر خوف جديد، بدت متفشّية بشكل مخيف، لا سِيّما في العاصمة مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
ما تُسَطِّره الصحافة المطبوعة في الداخل الأميركيّ بشكل عام ينبئ بأن العديد من كبريات المدن الأميركية، تعيش حالة من حالات الذعر، خوفًا من المجهول القادم، وبخاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس السابق، المرشّح الحالي للرئاسة الأميركية دونالد ترمب.
الخوف هذه المرة لا يتأتّى من عدوّ خارجيّ، مؤدلج بفكر إرهابيّ، أو رافع رايات إيديولوجيّة غامضة، بل مصدره الرئيس العداوة المتصاعدة بين اليسار واليمين في طول البلاد وعرضها، وبخاصّة بعد أن تحول السباق الانتخابيّ الأميركي، من عملية تنافس لها محدّداتها ومعاييرها السياسيّة التقليديّة، إلى حلبة صراع للدِّيَكة، وخطط ما ورائية لنسل آل كابوني، إن جاز التعبير.
لم يَعُدْ مشهد الحواجز الخشبية أو الأسمنتية هو من يخيف عموم الأميركيّين في واشنطن ونييورك أو لوس أنجلوس وشيكاغو، بل الحواجز العقليّة التي أضحت قائمة في عقول الأميركيّين، هي أكثر ما يخيفهم من بعضهم البعض، لا سِيّما أنها تتفكّك يومًا تلو الآخر، وما من أحد في الداخل الأميركي قادر على التنبّؤ بموعد القارعة الكبرى، والصدام الأهلي الكبير المتوقع بكلّ تأكيد وتحديد.
يَعِنّ للقارئ أن يتساءل: هل كانت محاولة اغتيال دونالد ترمب، هي فعل العنف السياسيّ الأول في الأعوام الأخيرة، وبدون العودة إلى القديم الأميركيّ، من إبراهام لنكولن وصولاً إلى جون فيتزجيرالد كيندي؟
بالقطع لا، ذلك أن الطريق من العالم السياسي القديم الهادئ إلى العالم الجديد المضطرب مليء بالعنف، والذي بلغ ذروته في محاولة اغتيال ترمب.
قبل واقعة بنسلفانيا، جرى إطلاق النار على النائبَيْن الأميركيَّيْن جاي جيفودز، وستيف سكاليس في عامَيْ 2011 و2017، عطفًا على مشاهد القنابل البريديّة المرسَلة إلى وسائل الإعلام وكبار الديمقراطيّين في عام 2018.
خُذْ إليك أيضًا مؤامرة الاختطاف التي تعرَّضتْ لها حاكمة ولاية ميتشيغان، جريتشن ويتمر عام 2020، الوجه المرشَّح لخلافة بايدن المنسحب من سباق الرئاسة هذه الأيام، ثم اعتقال مسلَّح في عام 2022 خارج منزل قاضي المحكمة العليا بريت كافانو والهجوم بمطرقة في نفس العام على زوج رئيسة مجلس النوّاب آنذاك نانسي بيلوسي.
هل العنف السياسي أمر طارئ على المجتمع الأميركيّ؟
بالقطع لا، فقد وَسَّعَ الرجل الأبيض حضوره في الداخل الأميركي عبر القوّة المسلحة، تلك التي مكَّنتْه من إبادة الملايين من الهنود الحمر، والاستيلاء على أراضيهم، ما يعني أنّ العنف السياسي ليس بالأمر الجديد على الإطلاق، وبخاصة في البلد الذي اغتيل فيه رؤساء آخرون من بعد لنكولن وقبل كيندي، من أمثال جارفيلد وماكينلي.
على أنّه ورغم كلّ تلك الجرائم المتقدّمة، لم يشعر الأميركيون سواء في واشنطن أو في غيرها بالخوف المحلِّق فوق سماوات الولايات المتحدة الأميركية.. لماذا؟
المؤكَّد أن لغة كبار قادة البلاد، من رئيس ومرشَّح للرئاسة، كانت السبب الرئيس وراء اندلاع هذا العنف الأعمى والذي لا يقطع أحد بما ستؤول إليه أحوال أميركا برُمَّتها معه.
قبل أشهر وفي سياق الاستعدادات لحملته الانتخابية ، تحَدَّثَ المرشَّح الجمهوري ترمب بأنه إن لم يَفُزْ فسيكون هناك “حمام دم”.
افتقرت لغة المرشَّح الجمهوريّ ترمب في كثير من المواقع والمواضع لمفردات السياسة، حتّى ولو كانت براغماتيّة، واتّسمَتْ لغتُه بالخشبيّة التي تدعم مسارات الغضب، فقد اقترح ذات مرّة بأن الجنرال المتقاعد “مارك ميلي” يستحقّ الإعدام، من جرَّاء تواصله مع رئيس أركان الجيش الصينيّ وقت أزمة السادس من يناير 2021، ومحاصرة الكونجرس الأميركي، كما عزز منشورًا على وسائل التواصل الاجتماعي يَتَّهم ليزا تشيني، ابنة ديك تشيني نائب الرئيس الأسبق، الناقدة للجمهوريين، بـ “الخيانة ” ويدعو إلى محاكمتها عسكريًّا.
لا يوفر ترمب أن يصف أعداءه السياسيّين بأنهم حشرات، فيما يعتبر المهاجرين “سمًّا يسري في عروق أميركا”، والتي هي دولة مهاجرين وبوتقة انصهار أو كانت كذلك على الأقل يومًا ما.
هل اختلف بايدن كثيرًا عن ترمب؟
في واقع الحال، الملايين من الأميركيّين يعتبرون بايدن السبب وراء محاولة اغتيال ترمب، فهو القائل: “ينبغي أن يوضع ترمب في بؤرة الهدف”، الأمر الذي فَسَّره الملايين على أنّه، بصورة أو بأخرى، تمهيد لإطلاق نيران الفتى كروكس على ترمب.
هل الخوف ينتشر في عموم الداخل الأميركيّ اليوم، ومن غير أدنى مقدرة على التفريق بين العامّ والخاصّ؟
تبدو هذه إشكاليّةً كبرى بالفعل، تجلَّتْ طوال العقد الماضي، ذاك الذي شَهِد موجة من الاحتجاجات السياسية في المنازل الشخصية للمسؤولين العموميّين، ممّا أدَّى إلى تحطيم العُرْف السابق المعمول به، حين سمحت كبريات مدن الإمبراطورية الأميركيّة للشخصيّات الحزبيّة الكبيرة، أن تكون مدنيَّةً عندما تصبح في منازلها مع عائلاتها، هذا تحطم ولم يَعُدْ له بالفعل وجودٌ.
تبدو أميركا اليوم وكأنها باتت محاصرة من جهتَيْن، ماغا، من ناحية، وأنتيفا، من ناحية ثانية، ومعهما تفقد الجمهورية القوية تماسكها وسلامها.
ماغا، تتطلَّعُ لإعادة أميركا قويّة من جديد، وتعبر عن التيار اليميني من يمين الوسط، إلى أقصى اليمين المتطرّف، حيث أبجديات الراديكالية السلبيّة قائمة وقدمت في ثنايا وحنايا برامجه.
أنتيفا تمثل بدورها اليسار المتشدّد المعارض للفاشيّة والنازيّة، والمناهضة للرأسمالية والنيوليبرالية واليمين المتطرّف، ويعتنق أغلب أعضائها الأفكار الشيوعية والاشتراكية واللاسلطويّة.
من هنا يمكن للمرء أن يدرك السبب وراء تحذيرات مكتب التحقيقات الاتّحاديّة من العنف القادم بقوة في ربوع البلاد، ذاك الذي رصده المفكرالأميركيّ الكبير، غراهام إليسون المحلّل الرائد في شؤون الأمن القوميّ الأميركيّ، صاحب نظريّة “فخّ ثيوثيديديس”.
أليسون يُقِرّ في قراءة أخيرة له بأنه لا أحد يعرف ماذا سيحدث في الأشهر المقبلة، ولكن يتعيّن على الأميركِيّين أن يدركوا جليًّا أن محاولة اغتيال ترمب من غير المرجَّح أن تكون آخر حادثة عنيفة في الأيّام المائة القادمة تقريبًا، والتي تسبق الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، وسواء جرى ذلك على يد شخص آخر منعزل أو منتقم.
هل الأميركيّون في طريقهم لأن يصبحوا عجزة عن الخروج من مملكة الخوف؟
المؤكد أن إمبراطورية الخوف، مملكة بلا مواطنين، حَيِّز لمتفرجين وتابعين وضحايا، تزيد سلبيَّتهم من عجزهم، ويوضح هذا العجز حدود الخوف ويزيد في حِدَّته.
ربّما يتوجَّب على الأميركيّين اليوم استرجاع مقولة الرئيس أيزنهاور: “أسوأ ما يتوجَّبُ علينا الخوف منه، هو الخوف نفسه”.