زيلينسكي في مرمى الإهانات

لا أظن أن زعيماً تعرّض للإهانة والإذلال منذ عقود مثل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي اكتشف ترامب أنه “ديكتاتور” وغير منتخب، و”ممثّل ناجح بشكل متواضع”، بينما ذكّره نائب ترامب جي دي فانس (شعبوي أكثر من رئيسه ومرشّح للتفوق عليه بالتنمّر)، بأنه لولا كرم واشنطن لما كانت بلاده نفسها موجودة الآن، وعليه بالتالي أن يشكرها، لا القيام بـ”أمر غبي”، بجولة أوروبية تسيء إلى الرئيس الأميركي. ولا علاقة للأمر بزيلينسكي، بل بترامب، الذي يريد نهايةً سريعةً للحرب الأوكرانية، واستعادة ما قال إنها 350 مليار دولار، والرقم ينخفض لديه بحسب المنبر الذي يتحدّث منه، فيصل أحياناً إلى 300 مليار، أو يرتفع إلى 500 مليار، بينما هو لا يتجاوز 200 مليار، منحها إياه الرئيس السابق جو بايدن بسخاء نادر، وبعضها قروض. ورغم ذلك، يظلّ المبلغ كبيراً، والظنّ أن واشنطن رمته في الهواء، بل لأسباب ذات صلة بالاستراتيجيات التي انقضّ عليها ترامب تمزيقاً وتخليّاً على نحو يصعب تفهّمه.
ما يحدث فعلياً أن فلاديمير بوتين، الهادئ، الذي يحرّك قدمه بتوتّر يكبحه دائماً خلال استقبال ضيوفه، قد ربح حرباً تعذّر عليه حسمها طوال ثلاث سنوات، بفضل من يفترض أن يكون خصمه استراتيجياً، الولايات المتحدة. وللدقّة، بفضل ترامب الذي يقول ما هو صائبٌ أحياناً، ومنه أنه ليس مُستعدِّاً لإدخال العالم في حرب عالمية ثالثة من أجل أوكرانيا، وأن زيلينسكي قام بعمل فظيع، وهو فعل ذلك حقّاً حين ارتضى لنفسه أن يكون طُعماً لاستدراج بوتين في حربٍ بلا نهاياتٍ معلومة، وربّما بلا معنى، فالحرب ما كان يجب لها أن تبدأ، وفي هذه أصاب ترامب أيضاً، ولا يمكن لزيلينسكي الفوز فيها، وهذا كلّه (وسواه) صحيح، لكنّ من شأن التراجع عنه بطريقة ترامب الإضرار بالاستراتيجيات الأميركية الكُبرى، ودفع الأوروبيين أبعد عن واشنطن، وتكريس عزلة بلاد قام نفوذها على التدخّل عبر العالم، وإحداث بؤر توتّر تطيل أمد الصراعات ولا تحلّها، ومنح بوتين انتصاراً مجّانياً كان قد جهد لإنجازه بالقوة، ففشل في تحقيقه كاملاً، فارتضى بربع نصر ليس أكثر.
لماذا يفعل ترامب هذا (وسواه) في ما يخصّ روسيا تحديداً؟ هل يفاوض لدفع زيلينسكي إلى خفض سقوفه والقبول بالتنازل عن السيادة عن نحو 20% من أراضي بلاده؟ هل يفعلها للاستيلاء على نحو نصف ثروات أوكرانيا ومعادنها الثمينة، علماً أن اقتراح ترامب في عمومه تسوية ديون، أي المعادن في مقابل ما أنفقته إدارة بايدن، وليس لضمان أمن أوكرانيا، ما يعني أن المطروح على زيلينسكي هو الاستسلام؟ ولو كانت هناك سفينة روسية على شواطئ أوديسا لاقترح ترامب توجّه زيلينسكي إليها مطأطئ الرأس لتوقيع اتفاق الذل هناك.
في يوليو/ تموز عام 2018، التقى ترامب وبوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي، ولأسباب تثير الحيرة والشكّ (أمس واليوم وغداً) ظهر ترامب مرتبكاً بجوار بوتين، ضعيفاً على نحوٍ يمكن الشعور به من دون تأكيده أو إثباته، هشّاً كأنّه في حضرة من هو أقوى منه، وربّما من له يد عليه، والتعبير الأخير يعني أنه في موقع من يدين بالفضل لآخر، لسببٍ أو لآخر. في حينه، كتب رئيس الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) السابق جون برينان، في “إكس”، إن أداء ترامب في المؤتمر الصحافي مع نظيره الروسي يفوق الجرائم الكُبرى، وهو نوع من الخيانة، فقد ظهر كأنه “في جيب بوتين بشكلٍ كامل”. بعد ذلك بأقلّ من شهر، ألغى ترامب تصريح برينان، الذي كان في رأس المؤسّسة الأمنية الأخطر في الولايات المتحدة والعالم (2013 – 2017)، ما غذّى ذهنية المؤامرة لدى قطاع كبير من مواطني الكرة الأرضية بأسرها، أن ترامب مجرّد عميل جنّدته الأجهزة الأمنية الروسية، ليصبح رجلها في البيت الأبيض نفسه.
أيّاً يكن الأمر، يقف زيلينسكي حالياً في وجه شاحنة بلا مكابح تندفع في الوادي، وهو أحمق في وصف كثيرين، جُرَّ لاستدراج بوتين إلى الفخّ فوقع هو فيه، تاركاً الرئيس الروسي أمام المدفأة يقشّر الكستناء ويلتهمه، في انتظار لقاء قريب مع صديقه الأميركي، الذي فاز مجدّداً بالانتخابات الرئاسية.