أخطر ما في الإبادة التعوّد
لماذا لم يطرقوا جدران الخزّان؟… سؤال مرير طرحه المُهرّب أبو الخيزران على نفسه في رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”، حين اكتشف أنّ الفلسطينيين الذين كان يهرّبهم إلى الكويت داخل خزّان مياه من المعدن ماتوا اختناقاً. كان الهدف الدخول خلسةً إلى الكويت للبحث عن عمل، من أجل التغلّب على تداعيات النكبة (1948)، ليست نكبة خسارة الوطن فقط، بل أيضاً نكبة الفقر المدقع الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد أن خسروا ما يملكون كلّه، ما يمكن أن يمدّهم بأسباب الحياة. كان السؤال عرضياً بالنسبة لغسّان الذي اختبر بنفسه مرارة اللجوء، وذهب إلى العمل في دول الخليج كي يعيل أسرته، بعد أن سلبها الصهاينة الوطن، وسبل العيش كلّها، واقتلعها من أرضها كما آلاف الفلسطينيين، وقذف بهم إلى جحيم اللجوء.
اختبأ رجال غسّان في خزّانٍ ضيّقٍ تحت حرارة شمس الصحراء، وتُوفُّوا جميعاً عطشاً واختناقاً وفقداناً للأمل، فيما كان أبو الخيزران يُبدّد الوقت في حديث تافه عن النساء مع شرطي الحدود. ما أشبه اليوم بأمس. مع فارق أنّ أهل غزّة يبادون في مدار الساعة، وأمام كاميرات الفضائيات وأنظار العالم، ولا داعي لأن يطرقوا جدران الخزّان أو يصرخوا طلباً للإغاثة. لا داعي لذلك كلّه، فالكاميرات تصوّر والعالم كلّه يعرف ما يحدث لهم دقيقة بدقيقة. تنتفض الجموع في عموم كوكب الأرض احتجاجاً على الإبادة الجماعية، التي تتّخذ أشكالاً متنوعةً ومروّعةً لا تخطر في بال أيّ مخيلةٍ إجراميةٍ مهما بلغت أقصى حدود الخيال. لا داعي لتكرارها هنا كي لا ينتابكم الملل. نعم، الملل الذي يُؤدّي إلى تعوّد أفعال الإبادة الجماعية، ويسلب منّا الشعور بالآخر النازح والمتألم والمتيتّم والجائع، حتّى يصبح غيرُ المألوف مألوفاً، لتنال منّا الإبادة، نحن المتفرّجين في الخارج على صنوف جرائمها ووحشيّتها، حتّى نصل إلى لحظة نفقد فيها الشعورَ بوطأة العجز أمام هول ما نراه أو نسمعه. وتستمرّ الحوارات والتحليلات السياسية في تفسير ما هو واضح عن مآلات هذه الإبادة، التي تحتاج الآن مُحلّلين نفسيين لا محلّلين سياسيين، يُحلّلون شخصية المُجرِم ونفسية الضحية. نحتاج إلى مُحلّلين نفسيين للمُحلّلين السياسيين أنفسهم، ووسائل الإعلام التي تنشد خبراً عن مجزرة جديدة كي تُغذّي شاشاتها بالإثارة، وتستقطب ملايين المتفرّجين الذين يتلوّون ألماً أو أولئك الذين يخشون على استثماراتهم إن توسّعت حرب غزّة لتغزو بُلداناً أخرى، قد تكون بلدانهم. نحتاج إلى مُحلّلين نفسيين لأولئك القادة السياسيين، أو الميدانيين، وحملة الألقاب العلمية من ذوي الاختصاص، وهم لا يكفّون عن الثرثرة فوق جثامين الإبادة من غير أن يوقفوا الحوار، ولو قليلاً، للنظر في عيون طفلة أُخرِجَت للتوّ من تحت الركام، لتجد نفسها وحيدةً من غير أمّ أو أب أو عمّ أو خال، بعد أن مُسِحت عائلتها من السجلّ المدني، وكأنّ تلك العبارة باتت عاديةً ومألوفةً للسمع من كثرة التكرار الذي يقودنا إلى التعوّد، الذي يأخذنا بدوره (مع الوقت) إلى فقدان الاهتمام بما يحدث لها، ولكلّ أهل غزّة، الأموات منهم والأحياء.
ثرثرة لا توقف الحرب ولا تسدّ رمقَ طفلٍ جائعٍ ولا مسنٍّ، ولا تقلّل من هموم أمّ وقلقها على أطفالها من موت يحدق بهم في كلّ لحظة. أين أنت يا غسان كنفاني كي تطرح علينا أسئلةً بحجم إبادة جماعية متلفزة؟ كي تقتنص المعنى من هول الفظائع هذه؟ وإلّا ما شأننا الآن بالخزّان وجدرانه، وأهل غزّة يعيشون اختناقاً أكبر من خزّان وأصغر من أصغر سجن في العالم، ولا يوجد معتصم تستغيث به امرأة من غزّة “وامعتصماه”، ولا امرأة في غزّة تتقن ذل الاستغاثة في عالم يفتقد للرجولة في معناها الفروسي. فنساء غزّة أدرى بذكورها الأقربين، وليس لهن شأن أو أمل يُرتجى من ذكورها الأبعدين، أكانوا عرباً أو مسلمين أو غربيين متنوّرين أو شرقيين. نساء غزّة لا يملكن إلّا الدعاء كي يحمي الله أطفالهن، أو ربّما أصوات المحتجين على موتهن وموت أطفالهن، على مرمى قنبلة أو جرعة ماء لم يجدنها، أو كسرة خبز، أو حبّة دواء لم تصل إلى أفواه صغارهن. فهي تدرك أنّ خبرها وخبر أولادها سوف يفقد بريق الدماء بعد أن تعوّد العالم على مشاهد الإبادة الجماعية أشهراً متواصلةً حدّ فقدانه الحسّ والشعور، وتحايله للاعتياد على صدمة الإبادة وهي تتغلغل فينا.
نحن، من لسنا هناك، من نتسمرّ أمام الشاشات البعيدة، ونتخيّل أنفسنا هناك في غزّة، فيقتلنا التخيّل الافتراضي من جهة، ويُخدّر أحاسيسنا من جهة أخرى. نحن من يستحثّنا الفظيع أن نصرخ، لكن الصوت مكتوم، إذ ثمّة من يجلس على كرسيّه ليمنعك ويمنعني من أن نصدر صوتاً، وإلا سيفعل بكَ أو بكِ ما يفعلونه بأهالي غزّة. يجلس هكذا على عرش الخراب يحدق في الفراغ، ولا يبالي بمن أكل أو شرب، بمن نام جائعاً تحت سقف خيمة مُهدّدة بالاقتلاع بصاروخ يزن ألف طنّ من المتفجرات، ثمّ يتفقد معتصمٌ متخيلٌ كرسيَّه إن كان ما يزال تحته أم تزحزح قليلاً، ليعيد ترتيب ملامحه ويصوغ لغة جسد تعينه على الخداع أو كبت صراخك، وهو لا يعلم أو يعلم أنّ الإبادة تغلغلت فيك بفعل التعوّد، ولا يوجد أيّ خطر منك يتهدّده.
فاهنأوا بعرشكم أيّها الأعداء والأصدقاء، إن كان هذا العرش في قصر أو في ناطحة سحاب أو في ملجأ تحت الأرض أو فوقها، أو يكفي أن يكون نفقاً، فلن يستنجد بكم أحد، ولا حتّى توسّلات امرأة من أجل حياة صغارها، وليقم غسان كنفاني من قبره الآن ليسأل نفسه بعد أن طرق الفلسطينيون والفلسطينيات جدران الخزانات كلّها، وجدران الحصارات والمجازر والسجون من غير أن يعرفوا لأيّ معتصم يستغيثون، أو أيَّ جدار يطرقون. إنّ أحسنهم يا غسّان لا يعدو أن يكونوا مغلوبين على أمرهم، أو تجّار مقاومة ليس إلّا، يخوضون الحروب كأنّها ألعاب فيديو، ويتحدّثون عن الإبادة الجماعية بوصف ضحاياها أسطورةَ صمود.