أردوغان في مصر.. هل طويت صفحة الخلافات؟
تتجه البيئة السياسية في الشرق الأوسط اليوم إلى اعتماد مقاربات جديدة بين دوله المحورية حول قضايا المنطقة، أبرزها أن الحوار يمكن أن يصير بديلا ناجحا عن سياسة المحاور والتمحور التي باتت سمة السنوات العجاف الأخيرة.
وهي السمة التي رسمت صورة قاتمة للإقليم، ونظرة متشائمة لمستقبله امتدت لنحو عقد كامل من الزمان.
فقراءة سريعة لخارطة التفاعلات السياسية والدبلوماسية بين عواصم الإقليم الرئيسية تنبئ ببروز مساع ملموسة للتقارب والتصالح وإعلاء المصالح الوطنية على التجاذبات السياسية وإرساء مبدأ الحوار والتشاور حول القضايا الخلافية، نهجا للتعاطي معها وصولا لحلول دبلوماسية لها.
لم تكن أسباب هذه التحولات السريعة في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط نتيجة عوامل نابعة من داخل دول الإقليم وحدها، وإن كان مسرح العمليات في الإقليم مهددا بالانفجار والخروج عن السيطرة نتيجة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن هذه التحولات كانت سابقة لهذه المغامرة وجاءت أيضا استجابة لتحولات أعمق في البيئة الدولية واتجاه بعض القوى الكبرى للانشغال بقضاياها وإعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية وتفكيك ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط وتخفيف التزاماتها تجاه كثير من القضايا المتعلقة بأمن واستقرار الإقليم وكذلك سلامة وأمن حلفائها، والانسحاب سياسيا من بعض قضايا المنطقة والانسحاب عسكريا من بعض مناطقها دون دراسة جيدة لعواقب الانسحاب وتداعياته الكارثية، الأمر الذي دفع عقلاء دول المنطقة لإعادة هندسة علاقاتهم وسياساتهم الخارجية بما يضمن رفاه شعوبهم في ظل بيئة محيطة محفوفة بالمخاطر لكنها مليئة أيضا بالفرص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تخفيف تداعيات التحولات العميقة في البيئة الدولية التي تلت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.
وهذا ما يفسر الدبلوماسية النشطة لزعماء الإقليم والتي شهدتها عواصمه الرئيسية خلال العامين المنصرمين.
في هذا الإطار جاء استقبال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نظيره التركي رجب طيب أردوغان في أول زيارة رسمية له لمصر كرئيس دولة، بعد أن كانت آخر زيارة له للقاهرة في سبتمبر/أيلول 2012 عندما كان رئيسا للوزراء.
12 عاما هي المسافة الزمنية بين الزيارتين، مرت خلالها العلاقات بين القاهرة وأنقرة بمنعطفات حادة صاحبت التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة، بلغت حد سحب السفراء وتوقف أشكال التواصل الدبلوماسي الثنائي كافة، بل قطيعة بين قادة البلدين منذ عام 2013، قبل أن تتحسن العلاقات تدريجيا خلال العامين الماضيين، وهو التحسن الذي بدت مؤشراته وبوادره في مصافحة الرئيسين في قطر على هامش افتتاح منافسات كأس العالم لكرة القدم، ثم بعدها كانت هناك 3 زيارات لوزير الخارجية المصري سامح شكري لأنقرة، الأولى في فبراير/شباط من العام الماضي لتقديم العزاء والتعبير عن تضامن مصر بعد الزلزال المدمر الذي أودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص في تركيا وسوريا، ثم في أبريل/نيسان الماضي تلبية لدعوة نظيره التركي آنذاك مولود تشاوش أوغلو، الذي كان للتو عاد من زيارة للقاهرة هي الأولى منذ 10 سنوات، وذلك بهدف مناقشة سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين و”التشاور حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك”، ثم في يونيو/حزيران الماضي لتمثيل مصر في مراسم حفل تنصيب الرئيس التركي بعد إعادة انتخابه.
لم يكن تحسن العلاقات بين مصر وتركيا مجرد توجه ثنائي قاصر على الدولتين، لكنه يأتي استكمالا لجهود مماثلة بدأت في عواصم الإقليم الرئيسية الأخرى، أبوظبي والرياض، ما يمكن اعتباره إعادة ضبط العلاقات العربية التركية، وإعادة توجيه بوصلتها بما يخدم المنطقة وملفاتها القابلة للاشتعال.
ففي فبراير/شباط 2022 استقبل قادة دولة الإمارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أول زيارة له إلى الدولة الخليجية منذ عام 2013، وهي الزيارة التي شهدت توقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم بين عدة جهات في الإمارات ونظيراتها في تركيا، بهدف تعزيز التعاون وتوسيع الشراكات بين البلدين في مجالات الاستثمار والصحة والزراعة والنقل والصناعات والتقنيات المتقدمة والعمل المناخي وغيرها، والأهم من ذلك كان البيان المشترك بشأن النية في البدء باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين، وخطاب النوايا بشأن التعاون في الصناعات الدفاعية.
وبعد مرور أقل من عام ونصف كانت الزيارة الثانية لأردوغان إلى أبوظبي في يوليو/تموز الماضي في ختام جولة خليجية للرئيس التركي شملت جدة والدوحة وركزت على الاستثمار والتمويل والاقتصاد، وهي الزيارة التي شهدت توقيع عدة اتفاقات تقدر قيمتها بنحو 50.7 مليار دولار، الأمر الذي دفع أردوغان إلى وصف الزيارة بأنها “ارتقت بمستوى علاقاتنا إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية”.
استقبال أردوغان في أبوظبي ودبي والمنامة وجدة والرياض والقاهرة يمكن اعتباره ترسيخا لعهد جديد أو صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا والبلاد العربية الوازنة والفاعلة، لكنها صفحة تبنى على أسس وركائز ومحددات مختلفة عن تلك التي بنيت عليها هذه العلاقات خلال العقد الماضي، فالاقتصاد الآن أصبح هو الذي يقود السياسة، والمصالح المشتركة أصبحت هي التي ترسم السياسات الخارجية، ورفاهية الشعوب أصبحت تتقدم على ما عداها، وخلافات السياسة يمكن أن تتوارى خلف مصالح الشعوب.
لذا كان العنوان الرئيسي لكل هذه الزيارات هو الاقتصاد، بما فيها زيارته الأخيرة للقاهرة التي قال خلالها الرئيس المصري “سنسعى لرفع التبادل التجاري بين مصر وتركيا إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة”، و”نهتم بتعزيز التنسيق المشترك والاستفادة من موقع الدولتين كمركزي ثقل في المنطقة”، فيما أشار الرئيس التركي إلى أنه تم رفع مستوى التعاون بين البلدين إلى مجلس تعاون استراتيجي رفيع المستوى سينعقد اجتماعه الأول على هامش زيارة السيسي المزمعة إلى أنقرة في أبريل/نيسان المقبل.
أما فيما يتعلق بالتباحث حول القضايا الإقليمية والدولية التي تهم الجانبين، فإن هذه الزيارات قد تنعكس إيجابا على أزمات المنطقة المفتوحة، من ليبيا غربا حتى العراق شرقا مرورا بسوريا وفلسطين واليمن والسودان والصومال وأفغانستان وشرق المتوسط وغيرها من الملفات التي كان بعضها محل تباين كبير في وجهات النظر بين الجانبين خلال السنوات القليلة الماضية.
هي أزمات أثبت مسار تطور وتصاعد بعضها وتهديده لأمن واستقرار المنطقة ضرورة انفتاح كافة دولة المنطقة ولا سميا الأطراف الفاعلة فيها على بعضها البعض، والاعتماد على ذاتها، وتبني منطق الحوار الإيجابي والتواصل الفعال فيما بينها بشأن أي تباين في وجهات النظر حول قضايا المنطقة للالتقاء في منتصف الطريق عبر سياسات هادئة وهادفة ومنفتحة تعزز من أوجه الاتفاق وتقلص من مساحة الاختلاف وتراعي مصالح كل الأطراف وتضمن عقودا مقبلة من الاستقرار والازدهار الإقليمي ومجابهة التحديات المصيرية التي تطل برأسها حاليا على كل دول المنطقة.