أفغانستان.. فائض القوة وفائض القلق
عبد الحميد توفيق
اجتياح مسلحي “طالبان” بلدات ومدن وعواصم أقاليم أفغانستان بهذا اليسر يرسم علامات استفهام حول مرحلة لاحقة من مستقبل الصراع الأفغاني.
التداعي الدراماتيكي لحصون ومواقع بعض المدن التي كانت ذات حقبة أفغانية عصية على هذا الفصيل أو ذاك بسبب تحصينها من قبل الفصيل الذي يحكمها، ربما يمكن تفسيره من خلال سياقين لمسارات الواقع الأفغاني خلال العقدين الأخيرين من الزمن.
السياق الأول داخلي يتمثل في التحول الجاد من جانب الفصائل الأفغانية المسلحة وقادتها للخروج من عباءة الحروب والصراعات والركون إلى دائرة تفاهم بين جميع الأطراف وإعادة بناء الدولة، التي تضم الجميع، وتحصين البلاد من الخروقات الخارجية، فقلص البعض تسليحه، وأنهى البعض الآخر كل مظاهر التسليح والسلاح.
في هذه الغفلة من الزمن لجأت حركة “طالبان” إلى المناورة، فلا هي التزمت رسميا بما تم التفاهم عليه مع بقية القوى والفصائل، ولا هي أبدت معارضة علنية لذلك، فظلت في المنطقة الرمادية تراقب المشهد عن كثب، وتضع مخططاتها قيد التنفيذ في لحظة مناسبة لها، وهو ما أكدته التحولات الكبيرة في الساحة الأفغانية على المستويين السياسي والميداني منذ لحظة بدء الانسحاب العسكري الأمريكي من البلاد.
وبقيت “طالبان” توحي بالتزامها بعملية التفاوض مع الحكومة الأفغانية في جولات تكررت كثيرا وبإشراف أمريكي، ولم تتردد في التوقيع على مخرجات الحوار، ما يثير كثيرا من الشكوك أيضا بشأن مصداقية مجمل العملية التفاوضية ونتائجها.
السياق الثاني خارجي يتمحور حول عملية الانسحاب العسكري الأمريكي بمستوياتها التكتيكية والاستراتيجية.. هل قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان نتيجة الفشل أم أن الغاية الأمريكية تحققت؟
انكشاف الواقع الأفغاني بهذا الوضوح يدلل على أن قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن يرجح فكرة لجوء واشنطن إلى نظرية الاكتفاء بما أصابها هناك، وترك الآخرين، سواء من القوى الأفغانية المحلية، أو من القوى الإقليمية التي أسهمت بطريقة أو بأخرى في منع الأمريكيين من النجاح في أفغانستان، يدفعون أثماناً إضافية، وهذه النظرية تقتضي إحداث فراغ عسكري وسياسي يسمح لأكثر القوى تسلحاً باستغلاله، ويمكّنها من التوسع على حساب خصومها من الحكومة أو من الفصائل الأخرى جغرافيا وميدانيا.
انطلاقا من هذه النظرية تبدو المواقف الأمريكية السياسية والعسكرية حيال نقض “طالبان” للاتفاقات الموقعة بإشراف أمريكي مع حكومة كابول أشبه برفع العتب.
إلى أي مدى تستطيع “طالبان” المضي قدما باجتياحها البلاد شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالا؟ وهل تمتلك من القوة العددية والعتاد ما يحقق لها أهدافها؟ هل ستستسلم بعض القوى المحلية المستهدفة من قبلها في جميع البلاد، أم سيلجأ بعضها بحكم الضعف العسكري والميداني إلى إقامة تحالفات جديدة لمواجهتها؟ ما دور الحكومة الأفغانية في كابول ومستقبلها في حال وسعت “طالبان” سيطرتها على مرأى ومسمع واشنطن والقوى الإقليمية؟ كيف ستكون مواقف الدول المجاورة لأفغانستان في حال آلت أوضاع أفغانستان وقرارها إلى “طالبان”؟ هل ستتعامل معها كأمر واقع أم أن تناقض مصالح وأهداف عدد منها سيعيد أفغانستان إلى دائرة الصراع ضمن حدوده، وضبط إيقاعه، واستنزاف “طالبان” وتقليل مخاطر سيطرتها الكاملة على البلاد حال حصلت؟ هل سيستفيد زعماء القوى المناهضة تاريخيا وعرقيا ومذهبيا لـ”طالبان” من تضعضع قوتها “المحتمل” بسبب توسعها، ويفتحون جبهات مواجهة معها في أكثر من ساحة ومكان؟
فائض قوة “طالبان”، الذي ظل كامناً خلال السنوات الأخيرة وتعزز خلال وجود القوات الأجنبية، يشير إلى بُعدين، أحدهما ذاتي محلي مرتبط بمشروعها وبداعميها للانقضاض على السلطة في فرصة مناسبة لهم، كما حدث عند إعلان الانسحاب الأجنبي والأمريكي، والآخر متعلق بتقاطع مصالح بين الأمريكيين وبعض حلفائهم من دول الجوار الأفغاني، استلزم تهيئة المناخ والظروف الملائمة لخدمة تلك المصالح والأهداف.
بمقدار ما يثير فائض قوة “طالبان” الدهشة من حيث الحجم والتوظيف والنتائج، فإنه بات مصدر قلق في الداخل الأفغاني حول مستقبل البلاد، التي مزقتها الصراعات وحروب الآخرين على أرضها، وكذلك مبعث استنفار قوى إقليمية، سواء القلقة من أيديولوجيا “طالبان”، أو تلك المتصالحة معها، الأولى تتوجس من استخدام مسلحي “طالبان” ضدها وضد مصالحها، وبالتالي ضد استقرارها، والأخرى تخشى أن تدفع ثمن تصالحها معها بسبب معاداة المتضررين منها.
لقد سطّر التاريخ عِبَراً كثيرة عن أفعانستان خلال المنازلات المحلية أو مع القوى الخارجية، وثمة من وصفها بـ”مقبرة الإمبراطوريات”، فالإمبراطورية البريطانية خسرت حرباً استمرت أربع سنوات مع الأفغان عام 1842، والاتحاد السوفييتي خرج مهزوماً في ثمانينيات القرن الماضي، والولايات المتحدة، التي أطاحت بحكم “طالبان” عام 2011، تغادر حاليا خشية الغرق أكثر في وُحُولها، ودون إخماد الحرائق المستعرة على أرضها بيد “طالبان”، وها هي اليوم تبث إشارات عدم الاستقرار الداخلي بكل اتجاه، تقابلها علامات ترقب وحذر وقلق لدى دول الإقليم رغم تعارض أجنداتها حيال ما ينتظر أفغانستان في اليوم التالي.