أمير الانتقام
في القرن الماضي أنتجت السينما المصرية أكثر من فيلم استنادا إلى الرواية الشهيرة للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما “الكونت دي مونت كريستو”. كان عنوان الأفلام العربية “أمير الانتقام” أحدها بطولة أنور وجدي ثم آخر بطولة فريد شوقي بعده. والرواية هي من أشهر ما ألف دوما إلى جانب “الفرسان الثلاثة”، وتحكي عن شاب يخونه أصدقاؤه فيسجن ثم يغتني ويصبح ذا سلطة ويبدأ في الانتقام ممن خانوه.
مع زيادة المؤشرات على أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سيكون مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة في نوفمبر والاحتمال الأكبر أن يفوز على منافسه الرئيس الحالي جو بايدن الذي سيرشحه الحزب الديموقراطي لولاية ثانية يتذكر المرء رواية ألكسندر دوما. فهل سيكون ترامب في فترة رئاسته الثانية “أمير الانتقام” لينال من كل من انتقدوه ويعتبرهم خانوه أو خذلوه؟ أم أنه سيعود إلى البيت الأبيض أكثر اعتدالا من فترة رئاسته السابقة 2016 – 2020؟
من تجربة فترة رئاسته السابقة اتضح أن السياسات الفعلية لم تكن بقدر زعيق التصريحات، على الأقل بالنسبة للاقتصاد الذي حقق أداء جيدا في ظل إدارة ترامب. لكن لأن دونالد ترامب بطبعه متقلب ويمكن أن يغير موقفه مئة وثمانين درجة في لحظة بصعب توقع أن تكون فترة رئاسته الثانية في حال فوزه مثل الأولى – على الأقل فيما يتعلق بسياسة أكثر اعتدالا من وعوده الانتخابية.
على سبيل المثال فإن الرئيس السابق لا يرى أن كوكب الأرض يواجه أزمة مناخية، ولطالما كانت تصريحاته قريبة من أصحاب نظريات المؤامرة أحيانا في نفيه لأن هناك تهديدا بيئيا بسبب ارتفاع درات الحرارة الناجم عن الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. وبالتالي ربما يمضي قدما في إلغاء أغلب برامج الدعم الحكومي للتحول في مجال الطاقة ومنها مبادرات إدارة بايدن بالمليارات لتشجيع الطاقة المتجددة المستدامة من مصادر غير ملوثة للبيئة.
صحيح أن إدارة بايدن تطرح السياسة وربما تنفذ نقيضها، على الأقل هذا ما هو واضح في مجال الطاقة من منح تراخيص هائلة لاستكشاف وإنتاج النفط والغاز حتى أصبحت أميركا أكبر منتج للنفط عالميا، لكن البيت الأبيض في وجود ترامب قد يذهب بعيدا أكثر. فقد وصف الرئيس السابق برامج الإدارة الحالية للتحول بأنها “النصب الأخضر الجديد”.
هناك أيضا وعود ترامب بأن يقوم بأكبر عملية طرد للمهاجرين وطالبي اللجوء في تاريخ الولايات المتحدة، وتلك مسألة مثيرة جدا للناخبين من اليمين واليمين المتطرف الذي يمثل القاعدة الانتخابية الصلبة لدونالد ترامب. أما بالنسبة للوعود الانتخابية التي تتعلق باحتمال “العودة” للسياسات الحمائية والانعزالية، فالحقيقة أن إدارة بايدن لم تفعل الكثير عكس ما كانت تتهم به إدارة ترامب السابقة.
حسب التصريحات الانتخابية الحالية يعد ترامب بفرض رسوم وتعرفة جمركية بنسبة عشرة في المئة تقريبا على كل الواردات لتشيع استهلاك المنتجات الأميركية. وهناك تقارير عن عزمه فرض رسوم أكثر من النصف (نسبة ستين في المئة تقريبا) على الواردات من الصين. ومع أن ذلك سيشعل الصراع التجاري والاقتصادي بين واشنطن وبكين، إلا أنه في النهاية سيحصر الأمر بالاقتصاد بعيدا عن السياسة كما تفعل إدارة بايدن حاليا بتغذيتها التوتر في مضيق تايوان.
حتى في حال تنفيذ ترامب وعوده الانتخابية الزاعقة، فإن انتقامه هنا لن يكون من أفراد، في أميركا أو خارجها، فحسب لكنه سيكون انتقاما من “المؤسسة” بشكل عام. ومعروف أن مشكلة ترامب الأساسية أنه أول رئيس للولايات المتحدة لم يتبوأ أي منصب عام أي أنه كان من خارج المؤسسة تماما. وربما تكون سلطات إنفاذ القانون، من وزارة العدل وتوابعها كمكتب التحقيقات الفيدرالي، أحد أهم مستهدفات انتقام ترامب. فهو، وأغلبية أنصاره، يرون أن “المؤسسة” استهدفته ظلما بالقضايا العديدة ضده لإبعاده عن السياسة واحتمال الحكم مجددا.
لكن، مرة أخرى، يصعب توقع تصرفات دونالد ترامب. ولعله تعلم أيضا من فترة رئاسته الأولى أن تكون اختياراته لإدارته من أشخاص يتفقون معه تماما كي يمكنه تنفيذ ما يريد. وبما أن مجلس النواب الآن بأغلبية جمهورية، ومجلس الشيوخ منقسم ويرجح أن يخسره الديموقراطيون في انتخابات نوفمبر، سيكون الكونجرس كله مع ترامب.
ربما يكون “الانتقام” الأهم مسألة ايجابية فعلا، وذلك غذا تمكن دونالد ترمب من انهاء الصراع في أوكرانيا بمجرد دخوله البيت الأبيض. صحيح أن هذا قد يكون على حساب كييف ولصالح موسكو بما يزعج الحلفاء الأوروبيين، لكنه سيكون مفيدا للشركات والأعمال في أميركا والعالم مع خفض كلفة الطاقة وتخفيف توترات جيوسياسية تضر بالاقتصاد العالمي كله.
بغض النظر عن لجوء ترامب للانتقام بمجرد توليه السلطة، من الأشخاص والمؤسسات والسياسات، أو اعتداله نتيجة تمرسه في الحكم والإدارة من قبل فإن منتقديه سيظلون يصفون كل تصرف له بأنه “انتقام” حتى يكادوا أن يجعلوا منه أمير الانتقام. مع ذلك فاحتمال الاعتدال والتعقل هو الأرجح، خاصة وأن الرئيس الذي كان مفاجأة قبل ثماني سنوات أصبح الآن “جزءا من المؤسسة” حتى على الرغم مما يبدو من أنه ضدها.
لكن، من الأفضل الآن للأميركيين والعالم كله أن يبدأ في وضع حساباته على أن الرئيس الأميركي مطلع العام القادم سيكون دونالد ترامب. فالحذر، وإن كان لا يغني عن القدر، إلا أنه يفيد في تقليل التبعات السلبية.