أيام دموية في لبنان
يقظان التقي
دخلت الحرب بين حزب الله وإسرائيل مرحلةً جديدةً من الصراع الوجودي بين الجانبَين، وسط مخاوفَ حقيقيةٍ من تدحرجها نحو الأسوأ في مواجهات واختراقات تتوسّع، وتتجاوز “الخطوط الحمراء” إلى مكان شديد الخطورة في تبادل أعمال القصف والتفجير والاغتيالات الدموية، وفي عمليات أمنية بالغة التعقيد في مساراتها غير المتكافئة. وصارت الاختراقات تصيب المهام التي يتبنّاها الحزب، ويتحمّل فيها أمام جمهوره المسؤوليةَ والتبعيةَ عنها.
ولا تُخفِي هذه الصورة مقدارَ الانكشاف الكبير، والتغيير والتبدّل في موازين القوى، بين حزبٍ يتمسّك بعدم تغيير مواقفه، وبهامش تحرّك عملياتي يضيق في بيئة شعبية مختلطة بالسكّان (مصدر قوّته وضعفه في آن)، ودولة احتلال مُتقدّمة أدخلته حربَ كسر إرادات، تحت ضغط لقبول تسويةٍ تعيد المستوطنين اليهود آمنين إلى منازلهم في الشمال. خالف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، التوقّعات كلّها في ردّه على “أقسى وأشرس ضربة تعرّض لها حزبه في الهجوم على شبكات الاتصال”، بالتزام موقف عدم الإفصاح والإعلان عن الردّ وطبيعته، وبغموضٍ وسخريةٍ رماديةٍ إزاء تفجّر الأحداث وتنافرها، كأنّ ما يحصل مُجرَّد قصَص عادي، ما شكّل مُؤشِّراً إلى ارتباكٍ غير مسبوق في المخاوف الأمنية والشعبية، مع ثلاث عمليات أمنية كبيرة نفّذتها إسرائيل في ثلاثة أيّام متتالية.
في اليوم الثالث، استهدفت إسرائيل اجتماعاً لقادة أركان فرقة الرضوان في الضاحية الجنوبية. عرفت إسرائيل بالاجتماع وزمانه ومكانه، في عملية انكشافٍ دمويةٍ ضخمة دمّرت مبنيَين سكنيَين في الضاحية، واستشهد فيها قائد الفرقة إبراهيم عقيل، وآخرون، وقتلت أيضاً مدنيين وأطفالاً (المرّة الثالثة، إذ اغتالت إسرائيل في يناير/ كانون الثاني الماضي نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، واغتالت في يوليو/ تمّوز الماضي القيادي فؤاد شكر)، وهي تخطّط للتوسّع في استهداف قدرات حزب الله الصاروخية، والعمق البشري والاجتماعي، وكسب الاندفاعة في عدم السماح للحزب بإعادة الترميم والتركيب لقدراته العسكرية، وبسحب قوّة الردع التي بناها منذ حرب تمّوز (2006).
يتعلّق الأمر بمنظومة القيادة والسيطرة السياسية، وأنّ الجماعة باتت تعمل في هدى فِكَرٍ وائتلاف عناصرَ غير مترابطةٍ، وتُنازِع في ضبط أدواتها، ما يُهدّد “الجسم السرّي” منظومةً مغلقةً حصريةً وآمنةً جرّاء الحوادث المباغتة، وتخرجه خارج الميدان، وتشي في المدى الأوسع والأبعد بانهيار “دولة حزب الله”. شأن لا نظير له في الإحاطة الاعتقادية والاجتماعية والأهلية والأمنية والسياسية والعسكرية، التي رافقت النشأة منذ نهاية سبعينّيات القرن الماضي، وهي التي تملي على اللبنانيين ما يصحّ لهم مثالاً وأحلافاً خارجيةً، وأحوالاً في الحرب والسلم، ومن تراه يحتسب ولا يحتسب، مصلحةً ومنفعةً أو قدراً ووصايةً سياسيةً ثقيلةً على الدولة اللبنانية، التي لا تُقرّ بها ولا بمؤسّساتها. هذا كلّه لا معنى له حين يسقط شباب الحزب وكوادره (بلغ مجمل الإصابات في يومَي الانفجارات رسمياً 37 شهيداً و2931 جريحاً).
ثمّة تحدٍّ آخر يتعلّق باستخدام التكنولوجيا، فقد تستمرّ الفجوة الصناعية لتنفي عن الحزب صفةَ الحداثة قياساً إلى المثالات السابقة، ما يفتح الباب لمستوىً جديدٍ من المواجهة، التي ستفرض على المقاومة اعتمادَ أساليبَ جديدةٍ في الحرب الدائرة في المنطقة، واختبار نوعٍ جديدٍ من الحروب ما بين عصر الحروب الكلاسيكية وبداية عصر الحروب السيبرانية، التي هي وفق المقاييس كلّها حروب وجودية ومرئية في شبكات التواصل الاجتماعي. وهي لم تظهر بعد أيّاً من قدراتها النوعية، بعد ما تعرّضت له من اغتيالات، ومجزرتَي الأجهزة (البيجر واللاسلكي)، ولجهة حالة التماثل مع عدو يُصنَّف جيشاً ما بعد حداثي. وتقوم إسرائيل بتطوير مهنة الاغتيالات من نشاطات تستهدف أفراداً (لدى الجواسيس الإسرائيليين تاريخ طويل في استخدام الهواتف ومراقبتها؛ قتل محمود الهمشري في باريس 1972، ويحيى عيّاش 1996)، إلى اغتيالاتٍ جماعيةٍ تطاول مئات وآلاف المواطنين. لكن على الرغم من التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي، فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدرك أنّ الحرب في لبنان لن تكون نزهةً، ويمكن أن تكلّفه غالياً، وبالتالي تقوّض شعاراته ومستقبله السياسي.
ليست لدى حزب الله خيارات كثيرة؛ إمّا الحرب الواسعة لمواجهة العدوان الإسرائيلي وأدواته، التي توسّعت وتغيّرت أدوارها، أو ممارسة شيء من البراغماتية الانتقالية، عبر التجاوب مع الدعوات المطروحة إلى التهدئة، منعاً لتدهور خطير في أوضاع المنطقة. هناك تحالف دولي من راغبين (وقادرين) في منع حرب شاملة لا يمكن التنبؤ أين تصل بالشرق الأوسط، وتُهدّد دولاً برمّتها، والوضع الأوكراني غير مستتبّ، وكذلك الأزمات في دول أخرى، وهناك لحظةٌ تفاوضيةٌ قادها المفاوض الأميركي عاموس هوكشتاين، الذي ربط أخيراً زيارته لبيروت بجواب لم يصل إليه من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، في إطار ما يُؤسّس أو يمهّد الطريق لقرارٍ يُوقف إطلاق نار دائماً، والتأكيد على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 (يطالب حزب الله بالوقف الفوري لهجماته، وإسرائيل بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية الهجومية، وسحب قواتها كلّها من جنوب لبنان).
في هذه الأثناء، يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وضعَ خريطة طريق (يحملها معه جان إيف لودريان إلى بيروت)، مؤدَّاها أنّ “الحربُ ليست حتميةً”، وكان ماكرون قد طلب من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي التحرّك وإبلاغ الحزب بضرورة عدم التصعيد لسحب ذريعة الحرب من يد إسرائيل، وحمل وليد جنبلاط إشاراتِ القلق تلك إلى برّي، متمنّياً عليه القيام بشي ما، وملاقاتها بخيار وطني عامّ، يعيد الحياة إلى عمل المؤسّسات الدستورية ويسرّع في انتخاب رئيس للجمهورية، وإقناع الحزب بالتقاط اللحظة لتحييد لبنان والمدنيين (كما ذكر نصرالله نفسه في أحد خطاباته الأخيرة)، فقد يتوسّع القتال، إذ تشهد جبهة الجنوب أعنفَ المواجهات منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واجتياح الحدود أصبح الآن أكثر احتمالاً.
اللبنانيون في صدمة أيقظت ذاكرة الأيّام السوداء، وتبعاتها كلّها على المجتمع والكيان (ليس فقط خارج حدود المتصرفية التاريخية). لبنان كلّه مُعرَّض للخطر، والناس تكافح معاناتها وصدماتها وأزماتها، لا سيّما حين تركّز وسائل الإعلام من فوق الأسطح (140 فريقاً عربياً ودولياً)، على آليات الحرب وعملياتها، بدلاً من التركيز على ضحاياها. المشهد غير متخيّل مع أعداد الشهداء والجرحى؛ إصابات العيون، وبتر الأيدي، وتشويه الوجوه، وبقر البطون، والجراحات الترميمية… وضع يرتبط بمصطلح كارثة لدى الأطباء والمسعفين في غرف الطوارئ. يسقط اللبنانيون بغضّ النظر عن هُويَّتهم المدنية والعسكرية، وهم يمرّون بروتينات يومياتهم من دون محاسبة لما طاولهم من أذى في قالبٍ متَّسقٍ مع طابع الدولة العبرية الإرهابي الحقيقي، وفساد أخلاقي في القصف والقتل والتدمير والتشويه. ليست إسرائيل بحاجة إلى ترسانةٍ نوويةٍ لتقتل وتدمّر كل شيء، امتداداً للسلوك العنصري حيال الفلسطينيين، والعالم ليس بعيداً من الذهاب المباشر إلى الجنون الكوكبي السيبراني الشرّير الذي تمارسه.
هذا النفور العام كلّه في لبنان هو من الانزياحات الأنثروبولوجية الكارثية نحو الخارج، التي لا تزال تُمعِن في تشتيت الوعي الوطني والاستهتار بقيمة الحياة والاستقرار، والخشية أنّ هناك مَنْ يحاول تحقيق مكاسبَ سياسيةٍ سخيفةٍ جزءاً من التحوّلات تفوق ما كان يُخطّط له العدو، وما يُخشَى أن يكون قد يحدث بالفعل في وضعية التشاؤم غير القابل للتراجع.