إسرائيل و”الناتو الإقليمي”: هل حان وقت إحياء المبادرة العربيّة؟
علي حماده
يختتم الرئيس الأميركي جو بايدن، اليوم، جولته الرسمية الشرق أوسطية بزيارة المملكة العربية السعودية. يطير مباشرة من إسرائيل إلى السعودية، بما يعكس رمزية الزيارة والتطور الكبير في العلاقات العربية – الإسرائيلية. وقد شكلت المحطة الأولى في إسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية محطة مهمة في ما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، وانسداد أفق العملية السلمية الذي أدى إلى ترك الصراع من دون حل نهائي، مع أنه كان يمكن أن يكون بسيطاً بعدما صارت المطالب والحلول الثنائية الفلسطينية والإسرائيلية واضحة، وربما لم تعد في حاجة إلى تفاوض.
فكلما طال أمد الجمود القاتل، ازدات الأمور تعقيداً، لا سيما أن الرهان الإسرائيلي عموماً، يقوم على كسب الوقت من أجل قضم أوسع مساحة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما سيجعل، بعد وقت ليس ببعيد، حل الدولتين الذي وحده يؤمّن لإسرائيل الأمن الذي تنشده مستحيلاً. فالشعب الفلسطيني موجود على الأرض، وهو باق، وكلما عمدت إسرائيل إلى حصر الشعب ضمن بؤر سكانية ذات كثافة عالية، تحولت الضفة الغربية شيئاً فشيئاً إلى مجموعة تجمعات بشرية مدنية شبيهة بمدينة غزة التي تمثل حتى الآن مشكلة المشكلات لإسرائيل، على الرغم من أنها غير متصلة جغرافياً بالضفة الغربية. هذه وصفة لانفجار “نووي”، بمعنى أن الكثافة السكانية المحاصرة من دون مدى حيوي جغرافي، يستحيل التخلص منها، ويوماً بعد يوم سيؤدي الحصار المتواصل لملايين الفلسطينيين إلى سلسلة انفجارات أمنية، يستحيل مع كل الإمكانات العسكرية المتوافرة للإسرائيليين أن تمنع حدوث اهتزازات كبرى في الاستقرار الإسرائيلي.
أي حل لا يقوم على العودة إلى روح المبادرة العربية التي قدمها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت مطلع الألفية الثانية، لن يكون حلاً، وسيهدد على الدوام العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، حتى مع توافر المصالح المشتركة، أقله بالنسبة إلى إقامة شراكات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية ودفاعية.
ستبقى مسألة الحقوق الفلسطينية عاملاً مهدداً لأي علاقة إسرائيلية بالعالم العربي. وللتذكير فإن من يراجع أدبيات “الاتفاقات الإبراهيمية” التي جمعت إسرائيل مع أربع دول عربية رئيسية، وثمة دول أخرى مستعدة للدخول طرفاً في الاتفاقات، فقد جاء في النصوص المؤسسة للاتفاقات المشار إليها أن السلام الإبراهيمي ليس بديلاً من السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، بل إنه حافز ومشجع له. لكن الأهم أن السلام بالمفهوم الإسرائيلي يجب أن يتطور، فلا يعود مجرد مناورة من أجل إحداث تغييرات على الأرض تؤدي إلى قصم ظهر الشعب الفلسطيني ومنعه من أن يحصل على الأرض التي تحق له بالحد الأدنى وفق المبادرة العربية، ومعها دولة طبيعية تخرجه من الواقع المزري الذي ينوء تحته اليوم.
وبما أننا نتحدث عن زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة التي تلتقي ورغبة حقيقية لدى العديد من الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فإننا نذكر بأن كل الإشارات التي صدرت عن السعودية في هذا الاتجاه، تحتاج لكي تترجم إلى علاقة حقيقية وصريحة على مختلف الصعد التي تهم البلدين، إلى حصول تقدم جذري في العملية السلمية الفلسطينية – الإسرائيلية. لا يمكن الاستهانة بموضوع القضية الفلسطينية إلى حد أن تعتبر إسرائيل أنها ذاهبة إلى علاقات تحالفية مع أكبر الدول العربية المركزية وأهمها، من دون أن تضع شيئاً على الطاولة. أكثر من ذلك، سيكون الرهان على وضع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتقدمه في العمر خطأً كبيراً يقترفه الإسرائيليون. والأحرى بهم أن يستغلوا فرصة وجود الرئيس الفلسطيني الحالي، لكي لا تعيدهم التجربة إلى مرحلة فرّطوا فيها بالزعيم ياسر عرفات، فحصلوا في مقابله على الشيخ أحمد ياسين، ثم خلفائه في “حركة حماس”، وصولاً إلى تحول الحركة في السنوات الأخيرة إلى شبه منصة للنفوذ الإيراني على بعد أمتار قليلة من المستوطنات الإسرائيلية. وهكذا انتهى الأمر إلى واقع “حماس” في الجنوب و”حزب الله” في الشمال.
إن “اعلان القدس” الأميركي – الإسرائيلي مهم جداً على أكثر من صعيد. ولا نريد أن نتحدث هنا عن التحديات الأمنية الإسرائيلية في زمن التمدد الإيراني. ونحن نعرف أن إيران ليست معنية بالقضية الفلسطينية بمقدار ما تستغلها إلى أبعد الحدود من أجل تنفيذ سياستها التوسعية في المنطقة العربية. إيران ليست أكثر عداوة لإسرائيل من عداوتها للعرب عموماً. فلقد قتلت إيران، إما مباشرة أو بواسطة ميليشياتها المذهبية مثل “حزب الله” و”الحشد الشعبي” وغيرهما، ملايين العرب والمسلمين في العراق وسوريا واليمن، وبينهم عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين استهدفوا على أرض سوريا والعراق. لكن يتعين على القيادات الإسرائيلية أن تعي أن مواجهة إيران وخطرها تحتاج إلى تحالف عربي – إسرائيلي واسع على مثال “حلف الناتو”، بمظلة أميركية يستحيل الاستغناء عنها مهما قيل في العلاقات مع العديد من الإدارات التي تردّت في الأعوام الأخيرة. لكن التحالف العربي – الإسرائيلي أو “الناتو الشرق أوسطي” لمواجهة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة الذي يجب التصدي له بكل الوسائل، وعلى كل الصعد السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والتنموية، يستدعي أن يكون أحد أركان بنائه إنهاء الصراع الذي من دونه سيبقى أي تحالف عربي – إسرائيلي مستقبلي معرضاً للاهتزاز.
انطلاقاً من ذلك كله، نقول إنه حان الوقت لكي يلاقي الإسرائيليون اليد الممدودة، لا بل أكثر، أن يعودوا إلى روح المبادرة العربية التي خرجت من قلب جزيرة العرب. من قلب المملكة العربية السعودية.