اتحاد الشغل في تونس: متى يتوقف اللعب على الحبال
غاب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي لفترة تقارب الشهر، وجرى حديث عن أن المنظمة تعمل على مراجعة موقفها في المشهد التونسي القائم على صراع واضح بين طرفين الأول قيس سعيد، والثاني حركة النهضة، وأنها لا تريد أن تبدو في الصورة حتى لا تتخذ موقفا يصبّ في صالح هذا أو ذاك.
لكن عودة الأمين العام للاتحاد إلى الواجهة لم تظهر أيّ ملامح لهذه المراجعة، فقد استمر الاتحاد في تسويق موقفه التقليدي الذي ظهر به منذ 25 يوليو في 2021، فهو مع إجراءات قيس سعيد، وهو ضدها في نفس الوقت، بمعنى أنه يقف في ما يشبه خط الفصل بين بلدين ويضع ساقا هنا وساقا هناك، فهو مع قيس سعيد وفي نفس الوقت هو مع النهضة ويسير على مختلف الحبال.
وبدا البيان الذي أصدره بمناسبة عيد العمال، ونشر قبل أيام، مرددا لسردية حركة النهضة بشأن الوضع في البلاد وتوصيف ما يجري على أنه أزمة سياسية مرتبطة مباشرة بقرارات قيس سعيد، حيث جاء في البيان أن “بلادنا تعيش منذ سنوات أزمة سياسية حادّة وغير مسبوقة، لم تستطع سياسة المغامرة والتفرّد بالرأي والمرور بقوّة وفرض الأمر الواقع إلّا تعميقها”، في إشارة واضحة إلى قرار الرئيس سعيد تجميع السلطات في يده.
من حق الاتحاد أن ينتقد تجميع السلطات في يد جهة واحدة، وعدم الحفاظ على وضع تعدد الرؤوس الذي كان يستفيد منه خلال عشر سنوات ماضية. لكن من غير الموضوعي أن يتم توصيف ما تعيشه تونس على أنه أزمة سياسية فقط، وأنها ازدادت عمقا بسبب إجراءات 25 يوليو 2021 وما بعدها من مراسيم وانتخابات، وإلا فإن الاتحاد سيناقض مواقف سابقة له كان حمّل فيها حركة النهضة والحكومات السابقة التي كانت شريكا فيها مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع البلاد من فوضى.
أرسى بيان اتحاد الشغل التونسي في عيد العمال قطيعة تبدو نهائية مع الحكومة من جهة ومع الرئيس سعيد من جهة أخرى، فهو لم يترك شيئا لم ينتقده واستعاد مصطلحات قديمة غابت حتى عن بيانات السياسيين من نوع “نزعة استبدادية تسلّطية”، في إشارة واضحة إلى أن الاتحاد يتجه للاقتراب من الصف الآخر المعارض لقيس سعيد.
لا شك أن البيان قدم خدمة جليلة لحركة النهضة وجبهة الإنقاذ لاعتماده كوثيقة ودليل على وجود “جهة محايدة” تقول نفس ما تقولانه خاصة في الفقرة التي يتهم السلطة بأنها “عمدت إلى شيطنة كلّ من يخالفها الرأي وتلفيق التهم ضدّهم والتضييق على حقّهم في المعارضة والرفض والاحتجاج وتمّ الاعتداء على الحرّيات والتضييق على حرية الصحافة وعلى حقّ النفاذ إلى المعلومة”.
لكن الاتحاد الذي يعتمد المناورة ويرسل الرسائل المتناقضة في نفس الوقت، وقف في منتصف الطريق، حيث لم يشر إلى التوقيفات الأخيرة بما فيها توقيف راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، ولم يردد ما قاله منذ فترة حين وجّه تحية إلى من أسماهم “سجناء سياسيين” بسجن المرناقية (غرب العاصمة)، وهو التصريح الذي أثار ضده ردود فعل غاضبة خاصة من داخل اتحاد الشغل حيث يستند الطبوبي في رئاسة للمنظمة إلى دعم تيارات قومية ويسارية ترفض أيّ تواصل مع الإسلاميين.
إلى حد الآن، لم يفلح الطبوبي في توظيف الورقة السياسية للاقتراب من قيس سعيد وإقناعه بضرورة الاعتماد على الاتحاد ومبادراته الوطنية للخروج من الأزمة، وهذا هو عنصر الخلاف الرئيسي، فقيس سعيد يريد من الاتحاد أن يظل في مربعه الاجتماعي التفاوضي، وعلاقته مع الحكومة وليس مع مؤسسة رئاسة الجمهورية، فيما يريد الاتحاد أن يستعيد الأضواء التي كان يحصل عليها قبل الثورة وخاصة بعدها، حيث تحول إلى لاعب محوري لا أحد يستغني عنه أو يسعى لتحديه أو تهديده، وهو ما مكّنه من أن يفرض شروطه على حكومات ما بعد 2011، حيث كانت تشتري رضاه بإقرار زيادات في الرواتب والعلاوات بالرغم من أن ميزانية الدولة لم تكن تتحمل ذلك.
وبالنتيجة، فإن الاتحاد لم يفلح سياسيا في أن يجد مكانا له قرب قيس سعيد ولا قرب المعارضة ولا استعاد وضعه “الاتحاد أقوى حزب في البلاد”. وهو ما يعني عمليا سقوط مبادرته بشأن إصلاح وضع البلاد التي يتحدث لأشهر عن أنها قاربت على الاكتمال.
وفي السادس من أبريل الماضي علّق الرئيس سعيّد على مبادرة الاتحاد، خلال زيارة إلى مدينة المنستير (وسط شرق) لإحياء الذكرى الـ23 لرحيل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، بالقول “لماذا انتخبنا برلمانا إذًا؟ وعمّ سنتحاور؟”. وأضاف قيس سعيّد أن “الحوار يجرى في البرلمان، وهي مهمة المشرّع المتمثلة في المصادقة على مشاريع القوانين”.
ولا يختلف التوتر في العلاقة بين الاتحاد ومؤسسة رئاسة الجمهورية عن علاقته بالحكومة، فقيادات الاتحاد تريد أن تتحرك من موقع قوة وتستعيد مفردات يسارية كلاسيكية عن العلاقة مع صندوق النقد لإفشال التواصل بين الحكومة والصندوق وقطع الطريق على أيّ اتفاق بينهما.
الرفض لمجرد الرفض، والاتحاد يعرف أن الحكومة لا تمتلك بدائل فعلية للخروج من الأزمة سوى بالحصول على دعم مالي من جهة ذات مصداقية خاصة بعد لجوء الدول، التي كانت تراهن تونس عليها لتحصيل التمويلات، إلى رهن تمويلاتها بموافقة الصندوق.
يعارض الاتحاد تدخل الصندوق ليس بسبب الخوف من المديونية العالية التي قد تجد البلاد نفسها فيها، ولكن، وبالأساس، لأن الصندوق يشترط إصلاح المؤسسات الحكومية الفاشلة، وهي مؤسسات مثقلة بالديون، ومثقلة بالآلاف من الموظفين. وهذا العدد مهم للاتحاد لأنه مصدر دخل قار للمنظمة ولا يمكن أن تتنازل عنه ولو تحت عناوين الإصلاح، فلا قيمة لإصلاح يضعفها ويحد من ثروتها، أو يحكّم صندوق النقد في مصيرها.
المعضلة أن صندوق النقد، الذي يمثل الملجأ الوحيد لتونس لتحصيل التمويلات، يشترط بدوره ألا يتم ضخ الأموال التي سيمنحها لتونس على هذه الشركات ما لم يتم إصلاحها. الشريحة الأولى من القرض تتعطل لسبب واضح أن الصندوق يريد أن يرى بأم عينيه أين ستذهب الأموال؟ وفيمَ ستنفق؟ ويعارض بوضوح كامل توظيفها في خلاص الأجور وتمشية الأمور مثلما كان يحصل في العشرية الماضية.
والحكومة واقعة بين نارين، نار الصندوق الذي تحتاج إلى قرضه ولا مناص لها منه وبين نار الاتحاد الذي يريد الحفاظ على نموذج لدولة تنفق بسخاء وتستجيب لحساباته وتوازناته الداخلية، وهذا أمر لم يعد ممكنا عمليا حتى لو قبلت به حكومة نجلاء بودن.
فهل يقدر الاتحاد، الذي حمّل الآخرين المسؤولية عن الأزمة ويبرّئ نفسه، أن يتقدم بحلول أو أفكار عملية تساعد تونس على الخروج من الأزمة ويشترك فيها الجميع بالتضحية خاصة أن البلاد لا تمتلك نفطا ولا غازا ولا إمكانيات ذاتية واضحة تراهن عليها.