اتفاق قره باغ الأخير ومحاولة الالتفاف التركية
د. خطار أبو دياب
نفد صبر روسيا بعد 44 يوما على المعارك الدامية في جوارها القريب، لم يسمح الرئيس فلاديمير بوتين لأذربيجان بتحقيق انتصار حاسم وجعل أرمينيا تتفادى هزيمة مذلة. بعد تردّد وقبل تمركز الإدارة الأميركية الجديدة أكد سيد الكرملين على نفوذه في البلدين المتحاربين وخاصة أرمينيا التي دفعت ثمن مسعاها للتوجه غربا وتقليد ما فعلته جورجيا في عام 2008.
وفّق الأسلوب البوتيني في نقل حجارة الشطرنج ولم يتم إشراك تركيا إلا لاحقا وبدور رمزي في مركز للعمليات وليس في قوات الفصل مما أبقى حسرة عند الرئيس رجب طيب أردوغان الذي كان يأمل في إنجاز صريح. ولذا أدى إطلاق موسكو لصفارة الإنذار النهائية بعد الإسقاط الغامض لمروحية روسية في أذربيجان إلى الارتباك في باكو، وهكذا أصبح هامش مناورة أنقرة محدودا، ومن هنا ستحاول تركيا الالتفاف على الاتفاق الأخير لتسجيل بعض المكاسب ولو من الباب الدعائي. لكن الممر البري الذي يصل الأناضول التركي مع العالم الناطق باللغة التركية سيبقى تحت رقابة موسكو وسيكون تحقيق الطموح التركي في القوقاز وآسيا الوسطى خاضعا لقبول روسيا بشكل أو بآخر.
كرّس “وقف إطلاق النار الكامل” في إقليم ناغورني قره باغ، الذي أبرمته أرمينيا وأذربيجان في 9 نوفمبر الحالي تحت رعاية موسكو، مكاسب الجيش الأذري منذ بداية هجومه في 27 سبتمبر الماضي. بموجب شروط هذا الاتفاق، تستعيد باكو السيطرة على جميع المقاطعات السبع المجاورة للإقليم التي احتلتها أرمينيا منذ التسعينات ويمكن للأذريين المطرودين العودة إلى ديارهم تحت رعاية الأمم المتحدة.
ولم يتم تحديد الوضع المستقبلي لقره باغ، لكنّ عاصمة الإقليم ونواحيها السكنية الأرمنية ستكون تحت وصاية “قوة سلام” قوامها 2000 جندي روسي ستتمركز لفترة أولية مدتها خمس سنوات وستضمن وجود ممرّين جديدين: أحدهما يربط أراضي كارابختسي الخاضعة للسيطرة الأرمنية بأرمينيا، الذي سيحل محل “ممر لاشين” الذي قطعه الهجوم الأذري والذي سيتجاوز شوشي (ذات الموقع الاستراتيجي)؛ وأخرى تربط ناخيتشيفان، وهي أرض أذرية غير ساحلية في أرمينيا، بأذربيجان – وبالتالي تربط تركيا مع أذربيجان أيضا.
منذ بداية الحرب الانتقامية من حرب 1994 التي كسبتها أرمينيا، كان من الواضح أن أذربيجان تخطط لاختراق هائل مستندة إلى الدعم التركي (خاصة لجهتي الطائرات المسيّرة أو الاستعانة بالمقاتلين الأرداف أو المرتزقة) وكان ذلك يمكن أن يحصل فقط في حالتين: الخسارة الكاملة لناغورني قره باغ؛ أو سقوط شوشي المدينة المشرفة على عاصمة الإقليم. وعندما كاد يحصل الاحتمال الثاني تدخلت روسيا لتحسم الوضع حسب توقيتها. وتحقق ذلك بفضل نفوذ فلاديمير بوتين في جنوب القوقاز وتجاذبه (وتقاطعاته) مع اللاعب الرئيسي الآخر أي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ومن دون شك لعبت التكلفة البشرية العالية لهذا الصراع دورا في قبول وقف إطلاق النار، إذ سقط المئات من القتلى من المقاتلين (5000 ضحية على الأقل حسب تقديرات بوتين).
في حرب جنوب القوقاز ومن دون لبس هناك فائزون وخاسرون. من الواضح أن الخاسر الأكبر هو أرمينيا التي يتوجب عليها أن تعيد أراض احتلتها منذ 1994 إلى أذربيجان، لكنها قبل كل شيء تفقد السيطرة العسكرية على قره باغ لصالح “حليفها الروسي”. ومما لا شك فيه أن رئيس الحكومة نيكول باتشينيان سيدفع ثمنا أخذه على حين غرة من باكو وبروز عدم استعداده لهذا الصراع على الرغم من علامات التحذير منذ أواسط يوليو الماضي، وزد على ذلك إدارته المضللة للصراع حيث كان الرأي العام لا يعلم جيدا مدى التقهقر العسكري. هكذا تأكدت خسارة أرمينيا و”جمهورية أرتساخ” (ناغورني قره باغ) التي استولت عليها أرمينيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ولم تحظ بأي اعتراف دولي أو إقليمي. والأقسى بالنسبة إلى يريفان التي تباهت بثورتها الديمقراطية قبل عامين، ها هي تضطر إلى التسليم بتبعيتها لموسكو.
في المقابل، يمكن لأذربيجان ورئيسها إلهام علييف أن يقدما نفسيهما على أنهما الفائزان الحقيقيان. لكن هذا النصر لم يكن ليتحقق لولا الدعم التركي وقبول نشر القوات الروسية على جزء من أراضيها. ومما لا ريب فيه أن شبكة المصالح التي تربط باكو مع لوبي الطاقة الروسي والأوليغارشية في محيط الرئيس فلاديمير بوتين، برهنت على متانتها. وإضافة إلى ذلك نجح علييف في الجمع بين المتناقضات، أي الدعم الإسرائيلي والتغاضي الإيراني.
في المحصلة يمكن القول إن الفائزين الحقيقيين في هذه العملية المحزنة هما روسيا بمثابة الحكم واللاعب الرئيسي وتركيا بمثابة الوصيف واللاعب الثاني ضمن النظام الإقليمي في جنوب القوقاز.
واللافت هو نجاح القيصر الجديد فلاديمير بوتين في تعزيز قبضته على البلدين المتحاربين في نفس الوقت، وبعد ست سنوات من غزو أوكرانيا، وبعد 12 سنة على تحجيم جورجيا في توسيع وجوده العسكري في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي أو ما يسمّيه بجواره القريب حتى ولو كان ذلك على حساب اقتصاده الضعيف.
وعلى لائحة الخاسرين لا بد من الإشارة إلى خاسرين آخرين: الدبلوماسية الأوروبية التي لم تنجح من خلال مجموعة مينسك (التي أنشأتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، مع روسيا والولايات المتحدة وفرنسا كرؤساء مشاركين) في لعب دور يذكر بعد سنوات من المفاوضات العقيمة وعدم القدرة على إنتاج تسوية مقنعة. أما الخاسر الآخر فهو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي خسر جولة من مبارزته مع الرئيس التركي لأن الصراع بعيد عن مجاله الجيوسياسي ولأنه ربما لم يتنبّه كفاية إلى لعبة التقاطعات بين السلطان الجديد والقيصر الجديد على حساب الاتحاد الأوروبي وكل المعسكر الغربي.
بيد أنه بالرغم من مسارعة الجانب التركي إلى التهليل للنصر الأذري واعتباره فخرا للأمة التركية، إلا أنه لا يمكن إخفاء المرارة من تحقيق إنجاز حاسم على جبهة خارجية في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية داخليا بعد إقالة حاكم المصرف المركزي واستقالة وزير المالية الذي هو صهر أردوغان بالذات. وما فتح الممر التركي نحو الشعوب الناطقة بالتركية تحت إشراف موسكو، إلا بمثابة جائزة ترضية لأن الجانب التركي ساءه عدم دعوة أنقرة إلى طاولة المفاوضات، على الرغم من الدعم الساحق الذي لعب دورا حاسما في النجاح العسكري لأذربيجان. ونتيجة الإصرار وخشية موسكو من التفاف تركي انتزعت أنقرة توقيع اتفاق بشأن “مركز تركي روسي مشترك للسيطرة على وقف إطلاق النار ومراقبته” يضمن الحد الأدنى من التواجد العسكري أو الأمني التركي في أراضٍ سيطرت عليها قوات باكو.
تغيّرت اللعبة في جنوب القوقاز مع تلقين الرئيس الروسي درسا لرئيس الوزراء الأرمني تحديدا وكانت أرمينيا شبه معزولة في محيطها مما قلب موازين القوى. لكن ذلك لا يعني الوصول إلى حل نهائي عادل ومقنع في هذا النزاع المزمن. مثّل الاتفاق الأخير الحل المؤجل لنزاع تاريخي مزمن بانتظار فصل جديد من لعبة الأمم.
الأوبزرفر العربي