استقال باتيلي.. ولا حل سياسيا ليبيا في الأفق
المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي ذهب في حال سبيله مستقيلا من منصبه بعد تعرضه لضغوط من قوى دولية فاعلة، وأكد قبل ذلك تضاؤل التوافق الدولي تجاه ليبيا التي تحولت، وفق تقديره إلى ساحة لعب يحتدم على أرضها التنافس بين الأطراف الإقليمية والدولية المدفوع بمصالح جيوسياسية وسياسية واقتصادية، بالإضافة إلى التنافس الذي تجاوز حدود ليبيا وطال الجوار. وزاد التكالب المتجدد فيما بين اللاعبين سواء داخل البلاد أو خارجها على ليبيا وموقعها ومواردها الزاخرة من صعوبة الوصول إلى حل.
ببساطة أكد الدبلوماسي السنغالي المخضرم، أن الحل السياسي غير مؤهل لإخراج ليبيا من النفق، خصوصا وأن “الشروط المسبقة التي يضعها القادة الليبيون، تقف على النقيض مما يظهرون من نية لإيجاد حل للنزاع يقوده الليبيون ويمسكون بزمامه. فحتى هذه اللحظة، لم تبدر منهم أي بادرة تظهر حسن نواياهم”. مصلحة البلاد غير مهمة بالنسبة لفرقاء يمتلكون مفاتيح الثروة في بلد نفطي، كان هدف المجتمع الدولي والدول الكبرى دائما هو استمرار تدفق نفطه إلى الأسواق الدولية، دون اعتبار لصراع اللصوص القائم بشأن إيراداته.
حاول باتيلي تفسير أسباب فشل مبادرته بخصوص الطاولة الخماسية التي كان أعلن عنها في نوفمبر الماضي، فرئيسا حكومة الوحدة الوطنية ومجلس الدولة رشحا ممثليهما للحوار المقترح، غير أنهما وضعا شروطا مسبقة تتطلب إعادة النظر في القوانين الانتخابية التي تم التوصل إليها بتوافق الآراء بعد ثمانية أشهر من المفاوضات التي أجرتها لجنة (6+6) بين المجلسين وبعد نشرها في الجريدة الرسمية من قبل رئيس مجلس النواب. كما يطالبان باعتماد دستور جديد كشرط مسبق للعملية الانتخابية.
رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يواصل تحديد أولويته في تشكيل حكومة جديدة من قبل مجلس النواب، متذرعا بأن المجلس هو الجسم التشريعي الرئيسي الذي يتمتع بأقصى قدر من الشرعية، على عكس المؤسسات الليبية الأخرى. يذكّر المبعوث الأممي الليبيين بأن مجلس النواب قد تم انتخابه في عام 2014، أي قبل عشر سنوات، وبالتالي فإن فترة ولايته قد انقضت، مثله مثل باقي المؤسسات المؤقتة الحالية. الأمر ذاته ينطبق على مجلس الدولة الذي يعود انتخاب أعضائه إلى العام 2012 وتم تدوير أعضاء المؤتمر الوطني العام في شكله الحالي من خلال اتفاق الصخيرات الموقع في ديسمبر 2015.
المشير خليفة حفتر يضع شرطا لمشاركته، وهو دعوة الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب برئاسة أسامة حماد إلى الطاولة الخماسية، أو إلغاء دعوة عبدالحميد الدبيبة، وبالتالي استبعاد الحكومتين. لا ينسى باتيلي أن يشير إلى أن الجيش الوطني يمثل دون منازع سلطة اتخاذ القرار في الأمور السياسية والعسكرية والأمنية في شرق وجنوب ليبيا، بينما تتولى حكومة حماد مهمة جناحه التنفيذي. ثم يتطرق إلى أن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ووكالات الأمم المتحدة وصناديقها وبرامجها تعمل على إشراك تلك الحكومة لاسيما في القضايا المتعلقة بالمساعدات الإنسانية وإعادة إعمار درنة، كما هناك حاجة إلى تأييدها من أجل تسوية سياسية لتمكين الانتخابات. ليعتبر أن زيادة مقعد منفصل على الطاولة الخماسية لحكومة حماد من شأنها أن تضفي الطابع الرسمي على الانقسامات في ليبيا.
بشعور عميق بخيبة الأمل، يقول باتيلي إن من المحبط أن “نرى أفرادا يتولون مناصب في السلطة يقدمون مصالحهم الشخصية على احتياجات بلدهم. ففي جميع أنحاء البلاد، يعبر الليبيون من ذوي النية الحسنة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنساء والشباب والمجتمعات المحلية وقطاع الأعمال والمجموعات العسكرية والأمنية فضلا عن مكونات المجتمع الأخرى عن نفاد صبرهم من الإخفاق في كسر حالة الجمود الراهنة، وإنقاذ بلادهم من ديناميات الفوضى والفشل”، مؤكدا على ضرورة “وضع حد لهذا الإصرار الأناني الذي يبديه القادة الحاليون للإبقاء على الوضع القائم من خلال تكتيكات المماطلة والمناورات على حساب الشعب الليبي”، وأن يتوصل القادة الليبيون إلى تسوية سياسية مبنية على المفاوضات والتسويات، حيث لا يمكن السماح بطغيان المصالح الضيقة لقلة من الناس على تطلعات 2.8 مليون من الناخبين الليبيين المسجلين.
أولا: أن القرار الحقيقي موجود لدى حاملي السلاح سواء من النشطين تحت لواء الجيش أو في صلب الميليشيات، ولدى الدول المتداخلة عسكريا وميليشياويا على الأراضي الليبية، وقد تكون مصراتة أهم نموذج لسلطة السلاح من خلال حضور عسكري إيطالي – بريطاني – أميركي – تركي إلى جانب العشرات من الميليشيات، بالإضافة إلى القوات النظامية التركية وميليشيات المرتزقة الموالية لها المنتشرة في غرب البلاد، وبداية التمركز الأميركي الذي هناك شبه إجماع على أنه يأتي في سياق صراع على النفوذ في البلاد مع الروس الحاضرين عبر مسلحي “فاغنر” المتجهين لتشكيل الفيلق الأفريقي تأكيدا على اتساع دائرة حضوره في المنطقة.
ثانيا: أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة انقلب على الاتفاق على مؤتمر الحوار السياسي، وتجاوز المدة التي انتخب ليدير خلالها شؤون البلاد، ووضع يده على مقدرات الدولة بعد أن تمسك بحقيبة الدفاع ونزع صلاحيات الخارجية من المجلس الرئاسي، وتحالف مع أمراء الحرب البارزين، وسيطر من خلال الموالين له على مراكز النفوذ المالي والاقتصادي، وأطاح برئيس مجلس الدولة المناهض لسياساته خالد المشري وجاء برئيس جديد موال له وهو محمد تكالة، واختار أن يلتحف بجلباب زعيم “سروريي ليبيا” الصادق الغرياني الذي حول دار الإفتاء إلى غرفة قرار سياسي يستهدف ضرب أي محاولة لحلحلة الأزمة أو تحقيق المصالحة، واتجه لاستعمال دبلوماسية الصفقات في كسب الدعم الإقليمي والدولي، مع خطة ممنهجة للبقاء في الحكم إلى أجل غير مسمى.
أما في شرق وجنوب البلاد، فإن جميع المؤشرات تدل على أن النظام المعتمد هو امتداد لما قبل 2011، وهو أقرب إلى نظام حكم الأسرة، وأن السلطة الفعلية أمنيا وعسكريا وسياسيا وماليا واقتصاديا وإعلاميا، تدار من قبل القيادة العامة للجيش وبالتالي من قبل المشير حفتر وأبنائه. وقد يجد ذلك دعما واسعا من الفعاليات الاجتماعية لاعتبارات قبلية ومناطقية ولكن الثابت أن هناك من يعارضونه، ومن تم الزج بهم في السجون بسبب مواقفهم السياسية، وخاصة من المحافظين على ولائهم للنظام السابق.
والحقيقة، أن لا أحد من أصحاب القرار في غرب أو شرق البلاد، يرغب في تجاوز النفق، وإعادة توحيد البلاد، والتخلي عن الامتيازات التي يحظى بها حاليا، ومن السذاجة أن يعتقد المجتمع الدولي أن المشير مثلا يمكن أن يتخلى عن مركزه الحالي أو عن السلطات الموزعة على أبنائه، كما لا أحد من أمراء الحرب في المنطقة الغربية مستعد للموافقة على حل يستبعده من مركز القرار أو يحرمه من مصادر الثراء الفاحش.
يقول باتيلي إن التعقيدات تفاقمت بتوافق ظاهر بين رؤساء المجلس الرئاسي ومجلس النواب، ومجلس الدولة ذلك وفقا لبيان مشترك صدر عقب الاجتماع الثلاثي الذي عقد في القاهرة في 10 مارس، والذي لم تكن البعثة طرفا فيه، والسبب المنطقي لموقفه أن المنفي وصالح وتكالة، ورغم السلطات التي يحتكمون عليها، إلا أنهم لا يمتلكون سلطة السلاح التي تبقى من صلاحيات حفتر في الشرق والدبيبة وأمراء الحرب الموالين له في المنطقة الغربية.
ثم إن مصالح أصحاب القرار الحاليين، تحتاج إلى بقاء الوضع على ما هو عليه، حيث لا حاجة إلى المصالحة ولا إلى طي صفحة الماضي، ولذلك ذهبت جهود الاتحاد الأفريقي سدى، وساهم المجلس الرئاسي بشكل كبير في إهدار المزيد من الوقت عبر مشروعه ولجانه التحضيرية ودوره المشبوه الذي قاده عبدالله اللافي، وتم الإعلان عن تأجيل مؤتمر للمصالحة الوطنية الذي كان من المقرر عقده في سرت في 28 أبريل. وبحسب باتيلي “ظهرت الانقسامات بين القادة الليبيين مرة أخرى بشأن هذا الملف بالغ الأهمية. وستواصل البعثة دعم عملية المصالحة الوطنية، بما في ذلك دعم تحديد موعد ومكان وجدول أعمال جديدين، وغير ذلك من الاستعدادات اللازمة لعقد هذا المؤتمر بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي”. لكن لا أحد يستطيع تأكيد التوصل في يوم ما إلى تحقيق مصالحة وطنية في البلاد، وذلك نظرا لاستمرار العقلية الغنائمية بين الفاعلين الأساسيين ممن لا يكتفون باستثمار الصراع وإنما يعملون على توريثه لأبنائهم.
غادر باتيلي، ولا حلّ سياسيا في الأفق، فيما يرى مناصرو حفتر أن الحل الوحيد سيكون يوم تسيطر قواته على كامل البلاد، ويرى معسكر أمراء الحرب في المنطقة الغربية وواجهتهم الدبيبة أن لا حل إلا بعد إخراج حفتر من المعادلة. وفي الحالتين، سيستمر الوضع طويلا على ما هو عليه. وترى واشنطن وحلفاؤها أن لا حل إلا بإجلاء الروس، فيما ترى روسيا أنها باقية لتأمين مصالحها في المنطقة.