«الأمن المطلق» بين إيران وإسرائيل و… العالم
هناك خرافة اسمها «الأمن المطلق»، وهي خرافة لأنّه لم يكن ممكناً في الماضي، ولن يكون ممكناً في المستقبل. لكنّنا نعرف، رغم هذا، أنّ خرافات كثيرة في التاريخ صارت أفكاراً ومنظومات فكريّة تُحكم باسمها أمم وشعوب، أو تؤسَّس، استجابةً لها، أحزاب وحركات سياسيّة.
والحال أنّ «الأمن المطلق» أو «أمن الحدّ الأقصى» ينطوي على مبدأ «صفر مخاطَرة»، علماً أنّ المخاطرة تلازم كلّ خطوة كبرى، أو حتّى صغرى، في سِيَر الجماعات وفي مساعي الأفراد.
و»الأمن المطلق»، إلى هذا، يستند إلى فلسفة متشائمة حيال البشر، مفادها الشكّ بهم والنظر إليهم بوصفهم ذئاباً أو ذئاباً محتملة قد تنقضّ في أيّ حين. فالآخر هو دوماً مطلق الآخريّة، وهو مصدر خطر أو موت محتّمين، ولو لاحا، في لحظة بعينها، كامنين أو مؤجّلين.
وتواكب نظريّةَ «الأمن المطلق» طريقةُ تفكير في السياسة وفي العلاقة بالعالم قد يكون أهمّ المعبّرين الأحياء عنها عالمُ السياسة الأميركيّ جون ميَرشيمر الذي يصفه كثيرون بأستاذ المدرسة الواقعيّة في الفكر السياسيّ. فعنده أنّ العالم إنّما يعمل على هذا النحو الكالح، محكوماً بالذئبيّة وبمنافسات الأطماع والطامعين. وما دام أنّه لا توجد سلطة فعّالة أعلى من الدول، تراقب تلك الدول وتضبط سلوكها، غدا لا بدّ من القوّة المطلقة وإخضاع القيم كلّها، كائنة ما كانت رفيعة وغيريّة، للمصالح. فكيف وأنّ أيّاً من الدول يستحيل عليها أن تعرف نوايا الدول الأخرى، وأن تحدّ منها أو تلتفّ عليها بالصداقات وتوقيع المعاهدات أو بإحراز الضمانات. وكان من آخر ارتكابات ميَرشيمر الفكريّة، وهو مُستَمَدٌّ من نظريّته إيّاها، تبريره غزو أوكرانيا بحجّة أن الأخيرة إن انضمّت إلى حلف الناتو تحوّلتْ مصدر تهديد لأمن روسيا.
وقد يُملي «الأمن المطلق»، في تأويله الأشدّ عدوانيّةً، إنشاء «مدى حيويّ» يحيط بدولة «الأمن المطلق». هكذا يصيب مُهاجموها زنّاراً من الدهون تتزنّر به، ولا يصيبون لحمها الحيّ، أو أنّهم يفتكون بـ «عبيد» الدولة ولا تصل يدهم أبداً إلى «الأسياد» أو «الأصليّين» فيها.
لكنّ المؤكّد أنّ فكرة «الأمن المطلق» تعبويّة بالضرورة. فهي تحرّض سكّانها وتدفعهم لأن يطلبوا ذاك الأمن ويطالبوا به لأنّه إنّما وُجد لخدمتهم. ذاك أنّ التهديد الخارجيّ لا يطال دولهم فحسب، بل يطال أيضاً حياتهم وحياة عائلاتهم، في شوارعهم وبيوتهم ومدارس أبنائهم. ولهذا فمَن يتهاون في طلبه يكون مستهتراً بحياته ومفرّطاً بحياة الآخرين وحليفاً موضوعيّاً للعدوّ، إن لم يكن حليفاً ذاتيّاً أيضاً. وبتزويج الخوف إلى التعصّب، تُصَدّ احتمالات كثيرة للحياة وللمغامرة وللاستثمار في المستقبل وفي القيم الكونيّة الجامعة، فيما يغدو الخطر المنتشر في الأمكنة كلّها، والآتي من تحت الأمكنة، قابلاً لأن يتجسّد في لاجئين أو مهاجرين أو غجر أو أصحاب سلوك مغاير.
وتعلن هذه القابليّة الخرافيّة، أو التآمريّة، المقيمة في نظريّة «الأمن المطلق»، أنّ إحساساً كبيراً بالضعف وبنقص الشرعيّة الذاتيّة يختبىء وراء الثقة بالنفس التي يستعرضها دعاة تلك النظريّة. لهذا يتصرّف الأخيرون كأنّهم يجمّدون التاريخ على صورة «أمن مطلق» يقابله «أمن معدوم» هو وحده ما يُتاح للآخرين الأضعف.
ومن ينظر اليوم في حالتي إيران وإسرائيل، وفي المدى الجغرافيّ الفسيح الواقع بينهما، يلاحظ كيف أنّ العراق وسوريّا ولبنان بلدان «أمن معدوم»، فيما الدولة الفلسطينيّة المحتملة ستكون «منزوعة السلاح». فالأمن كلّه استقرّ في المركز ولم يعد ثمّة أمنٌ مُتبقٍّ للأطراف والملاحق.
وهنا تحضر فوارق بنيويّة: فحرب إيران وإسرائيل المباشرة تُخاض بمنطق وموازين ومعادلات تفتقر إليها حروب معدومي الأمن أو الحروب بين واحدهم والدولة العبريّة. ففي الأولى يتدخّل العالم وقواه المؤثّرة لأنّ فاعلي الحرب دول، لا تنظيمات، ولأنّ الأكلاف التي تترتّب عن حروب الدول قد تمسّ النظام المؤسّس على دول. كذلك فالحرب الإسرائيليّة – الإيرانيّة قصيرة وسريعة، والغامض فيها أكثر من الواضح، وهو ما أتاح للبعض وصفها بـ»اللعب»، وهذا فيما حرب إسرائيل والميليشيات واضحة ومكلفة إنسانيّاً واقتصاديّاً، فضلاً عن كونها «طويلة» كما بات يقال. وليس بلا دلالة ذاك الاستنتاج الذي توصّل إليه البعض من وجود علاقة عكسيّة بين نوعي الحروب، بحيث أنّ لطف الحرب بين الجبّارين قد يُترجم تمهيداً لتوحّش جديد تكون رفح مسرحه هذه المرّة.
مع هذا، ورغم تلك المكاسب لأصحاب «الأمن المطلق»، يبقى أنّ فعاليّة العدوى وانتشارها، أو أيّ خطأ يغفل عنه الحساب، قد تعمل ضدّهماعلى مدى أبعد. فاليوم تواجه الدولتان الإمبراطوريّتان معضلة «تراجع القدرة على الردع» وتعرّض أجزاء من أرضهما أو أجوائهما لاختراق ما. فـ»الأمن المطلق» لم يعد مطلقاً عند سَيِّدي المشرق العدوانيّين – في حالة إيران منذ سنوات قليلة وفي حالة إسرائيل منذ أشهر قليلة.
بطبيعة الحال يبقى الفارق قائماً بين درجتي القدرة لدى الطرفين: فإسرائيل قادرة أن تدمّر المشرق العربيّ كلّه كي لا تنهزم، فيما إيران تمضي في تدمير المشرق كلّه قبل أن تنهزم. لكنْ كائناً ما كان الأمر، لم يعد مستبعداً أنّ يتسارع تحوّل أمن البلدين، المسمّى مطلقاً، إلى أمن نسبيّ، وأن يغدو هذا التحوّل حقيقة معلنة. أمّا ما يرتّبه ذلك على المنطقة وصورتها ومستقبلها، وعلى أحوال معدومي الأمن فيها، فأغلب الظنّ أن يصبح عنواناً بارزاً من عناوين المرحلة المقبلة.