الاستقطاب الحاد يهدد بانفجار الوضع في ليبيا

الحبيب الأسود

في خطوة مفاجئة، أعلن مجلس النواب الليبي المنعقد في بنغازي أن أعضاءه صوتوا لصالح قرار تشريعي برفع الولاية عن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، التي سبق وأن سحب منها الثقة في سبتمبر 2021، أي بعد أشهر قليلة على منحها تلك الثقة في مارس من العام ذاته بعد تشكيلها في ضوء نتائج ملتقى الحوار السياسي الذي أحاطت به الكثير من الشكوك في مصداقيته، نظرا لما تم الكشف عنه من عمليات البيع والشراء لأصوات الناخبين في قاعة الجلسات في جنيف، والذي لم تستطع نفيه حتى الأمم المتحدة التي أشرفت على الملتقى.

مجلس النواب لم يكتف بذلك، وإنما قرر تثبيت موقفه باعتماد رئيسه عقيلة صالح في منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدلا من المجلس الرئاسي مجتمعا، وهو ما يعني الإطاحة باتفاق الصخيرات الموقع في منتصف ديسمبر 2015 وبالتعديل الثالث عشر للإعلان الدستوري، والإطاحة بمخرجات ملتقى الحوار الليبي الذي انبنت عليه العملية السياسية الحالية.

حكومة الدبيبة ردت على خطوة البرلمان، بالتأكيد على أنها تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي الليبي المضمن في الإعلان الدستوري، وتلتزم بمخرجاته التي نصت على أن تنهي الحكومة مهامها بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتنهي المرحلة الانتقالية الطويلة التي عاشتها وعانتها البلاد. وقالت إنها تعتبر هذه القرارات التي لا تغير من الواقع شيئا، عبارة عن بيانات ومواقف صادرة عن طرف سياسي يصارع من أجل تمديد سنوات تمتعه بالمزايا والمرتبات أطول مدة ممكنة، لا عن سلطة تشريعية تمثل كل الأمة الليبية وترسخ لمبدأ التداول السلمي على السلطة. وأضافت أن حكومتها تتعامل مع هذه البيانات المتكررة على أنها رأي سياسي غير ملزم، وشكل من أشكال حرية التعبير لأحد الأطراف السياسية، التي تؤمن بها الحكومة وتكفلها لكل الأطراف والمواطنين على حد سواء.

رئيس مجلس الدولة خالد المشري، الذي لا يزال في صراع مع منافسه على المنصب محمد تكالة، اعتبر قرار مجلس النواب بسحب صفة القائد الأعلى للجيش الليبي من المجلس الرئاسي باطلا لمخالفته الاتفاق السياسي، وذلك انطلاقا مما ورد في الفقرة الثانية من المادة الثامنة في الاتفاق السياسي بشأن اختصاص مجلس رئاسة الوزراء، والذي أعيد تشكيله بالمادة الأولى من التعديل الدستوري الحادي عشر الصادر بتاريخ 26 نوفمبر 2018، والتي تنص على أن يضمن الاتفاق السياسي المعدل وفقا لما تم الاتفاق عليه، بتكوين الرئاسي من رئيس ونائبين ورئيس حكومة منفصل، إلى الإعلان الدستوري. وبناء على ذلك، يكون المجلس الرئاسي هو الجهة التي تمارس صلاحيات القائد الأعلى للجيش.

بيان المشري قد يكون وجيها في التزامه بمرجعيات القانون، ولكنه يأتي من خارج دائرة الحدث بأبعاده الراهنة، والتي كشفت عنها قيادة الجيش، عندما سارعت إلى الترحيب بقرار مجلس النواب بشأن صفة وصلاحيات القائد الأعلى، وأكدت قيامها بواجباتها الوطنية المنوطة بها لحماية الحدود الليبية مع الدول المجاورة ضمن المهام الاعتيادية للقوات المسلحة، وشددت على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي يتطلع إليها أبناء الشعب الليبي وصولا إلى مرحلة الاستقرار الدائم. بمعنى آخر، إن قرار البرلمان مرتبط بخطوات الجيش وجاء بالتنسيق مع القيادة العامة، وهو يقطع الطريق أمام كل ما يمكن أن يصدر عن المجلس الرئاسي المعروف بتحالفه البيّن مع الدبيبة بخصوص العمل على إبقاء الوضع على حاله من حيث تجميد العملية السياسية واستبعاد أي مشروع للحل.

هذه المواقف وغيرها لا يمكن فصلها عن التحركات الميدانية في غرب البلاد، وبروز تيار مناهض لاستمرار حكومة الدبيبة في السلطة، وهو تيار فاعل ومؤثر وله امتدادات مهمة في العاصمة طرابلس، ويهدف إلى تشكيل حكومة جديدة موحدة قادرة على إدارة شؤون البلاد وتهيئة الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ولا تستبعد بعض المصادر أن تسند رئاستها إلى فتحي باشاغا، على أن يتم تكليف أسامة الجويلي برئاسة الأركان العامة للقوات المسلحة، وإسناد حقيبة الدفاع إلى صدام حفتر الذي يتولى حاليا رئاسة أركان القوات البرية للجيش الليبي تحت القيادة العامة لوالده الجنرال خليفة حفتر.

وخلال الأيام الماضية، جرى الحديث عن تحرك قوات الجيش في منطقة جنوب غرب البلاد، وربطها البعض بمحاولتها السيطرة على مدينة غدامس الواقعة في المثلث الحدودي مع تونس والجزائر. ورغم نفي القيادة العامة من بنغازي، إلا أن العديد من المؤشرات كانت كافية للتدليل على وجود خطة عملية بالتنسيق مع قوى ميدانية في شمال غرب البلاد تهدف إلى الإطاحة بحكومة الدبيبة التي باتت تعيش حالة من الضعف والترهل واضطراب المواقف مع فشل غير مسبوق في الأداء السياسي والاقتصادي واتساع دائرة الفساد واستمرار سفك دماء الأبرياء نتيجة انفلات السلاح والإفلات من العقاب.

على الصعيد الإقليمي، أدى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في أوائل أغسطس الجاري، زيارة إلى القاهرة، استقبله خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتطرق فيها مع نظيره المصري بدر عبدالعاطي إلى جملة من الملفات ذات الاهتمام المشترك ومنها الملف الليبي الذي بدأت وجهات نظر الطرفين تتقارب حوله بتقارب مصالح أنقرة في بنغازي مع مصالح القاهرة في طرابلس، وكذلك بالتعامل مع الأزمة الليبية في سياق التحولات المهمة والمصيرية التي تشهدها المنطقة ودون معزل عن صراع النفوذ القائم بين الدول الكبرى وخاصة في منطقة الساحل والصحراء.

 

وفي إشارة واضحة المقاصد، قال وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف إن طول أمد الأزمة الليبية راجع في المقام الأول إلى تعاظم التدخلات الخارجية في شؤون هذا البلد الشقيق، مشيرا إلى أن مفتاح حل هذه الأزمة يكمن أساسا في استبعاد وإنهاء هذه التدخلات بجميع أشكالها ومضامينها ومآربها السياسية والعسكرية والأمنية. كما جدد دعوة بلاده ومطالبتها لجميع الأطراف الأجنبية برفع أياديها الجاثمة على الشأن الليبي، وبوضع حد للسياسات والممارسات والتصرفات التي تغذي الانقسام وتزرع الفرقة وتعمق الهوة بين أبناء الوطن الواحد والأمة الموحدة.

تفاعل الدبيبة سريعا مع قراءته الخاصة للموقف الجزائري لمهاجمة القيادة المصرية بسبب استقبالها رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب أسامة حماد، واعتبرت حكومته أن “رغم أن هذه الخطوة ليست ذات أي أثر واقعي، فإنها تُعدّ خروجا عن وحدة الموقف الدولي الرافض لعودة البلاد إلى حالة الانقسام والاحتراب”، ورأت أنها “تتنافى بوضوح مع الدور المصري والعربي والإقليمي المنتظر في دعم وحدة ليبيا واستقرارها، وتحصينها من محاولات التشويش والتقسيم”. لكن هذا التوجه الذي اعتمده الدبيبة كان أقرب إلى المراهقة السياسية في ظل العجز عن فهم البراغماتية التي تتعامل بها الحكومات مع القضايا المهمة، لاسيما أن حكومة حماد هي المسؤولة المباشرة عن الأمن والاستقرار على مسافة أكثر من 1100 كم من الحدود المشتركة بين البلدين، وليست حكومة الدبيبة البعيدة بمسافة تتجاوز ألفي كلم عن تلك الحدود.

في طرابلس، كانت هناك محاولة من الدبيبة للإطاحة بمحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير عبر استعمال جماعات مسلحة ذات مرجعيات متشددة لاستهداف المصرف ومحاصرته، وهو ما رفضته الولايات المتحدة من خلال مواقف مبعوثها ريتشارد نورلاند الذي أكد “دعم بلاده الكامل لمصرف ليبيا المركزي تجاه تلك التهديدات والمحافظة على استقرار المصرف المركزي من أجل القيام بالدور المنوط به على أكمل وجه”، واعتبر أن “ظهور مجموعة جديدة من المواجهات بين الجماعات المسلحة في الأيام الأخيرة يبرز المخاطر المستمرة الناتجة عن الجمود السياسي في ليبيا”، محذرا من أن “محاولة استبدال قيادة المصرف بالقوة قد تؤدي إلى فقدان ليبيا الوصول إلى الأسواق المالية الدولية”، انطلاقا من أن “النزاعات حول توزيع ثروات ليبيا يجب أن تحل من خلال مفاوضات شفافة وشاملة نحو تحقيق ميزانية موحدة تعتمد على التوافق”.

مجريات الأحداث تشير إلى أن الوضع في ليبيا وخاصة في العاصمة طرابلس مقبل على تحولات مهمة يمكن أن تحصل في أي وقت، وقد تصل إلى مرحلة الانفجار نتيجة الاستقطاب الحاد. لاسيما أن حالة الجمود السياسي التي يعتقد البعض أنها قد تكون لفائدته، يمكن أن تنقلب إلى حالة من الفوضى العارمة مع إعادة خلط الأوراق الميدانية في بلد يواجه أحد احتمالين لا ثالث لهما، فإما الانقسام الذي كانت ملامحه الأولى قد تشكلت منذ العام 2014، وإما الحرب الدامية التي تتيح للمنتصر فيها فرصة توحيد البلاد وإعادة تأسيس الدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى