البريكست.. من يضحك أخيرا جونسون أم كوربين
علي قاسم
يركز المعارضون لبريكست، خاصة في حال انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي دون ترتيبات تجارية تفضيلية، على أرقام الربح والخسارة، وما سيترتب على ذلك من معوقات تجارية، وهذا جانب معقد، ولدى كلا الطرفين، المؤيد والمعارض، الكثير مما يمكن أن يحاجج فيه.
يحاول المعارضون، توظيف الأرقام لخلق حالة من الذعر، وإثارة المخاوف، مصورين للبريطانيين أنهم في حال قبلوا خروج بريطانيا عن الاتحاد، سيواجهون كارثة اقتصادية، تختفي معها السلع الغذائية والأدوية والملابس وحتى مواد التجميل من الأسواق، وتشهد الحدود فوضى وطوابير من الشاحنات تنتظر وثائق الدخول والخروج.
نجح مثيرو الرعب إلى حد كبير، وهناك حديث عن توجه البريطانيين إلى تخزين السلع. وسارع جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال المعارض، الذي يتزعم حملة لإسقاط الحكومة، إلى الاتصال بزعماء المعارضة وأعضاء البرلمان المتمردين من حزب المحافظين، الذين يعارضون خروج بريطانيا دون اتفاق، بهدف تشكيل تحالف عابر للأحزاب لعزل بوريس جونسون، وإطلاق حملة من أجل إقرار إجراء استفتاء ثان بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
رغم ذلك، عبر نصف البريطانيين تقريبا عن رغبتهم في الانفصال، معتبرين أن جحيم البريكست بوجود بوريس جونسون أفضل من جنة جيريمي كوربين.
دعاة الخروج برعوا في توظيف حالة الإحباط السياسي التي اجتاحت الشارع البريطاني، والتخبط الذي اجتاح البلاد، جراء مطالبة بعض أقاليمها بالانفصال.
وفي المقابل، عبر قادة أوروبيون عن مخاوف من تكرار سيناريوهات مماثلة، فقد أعطى الاستفتاء البريطاني ذرائع إضافية للمشككين في الاتحاد يبنون عليها، ودعت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبان، كل دولة إلى إجراء استفتاءات شعبية حول الانتماء إلى الاتحاد، مقتفية بذلك دعوات مسؤولين مناهضين لأوروبا في الدنمارك وهولندا والسويد. ورغم أن الاتحاد الأوروبي يخطط لإدخال إصلاحات تلي صدمة الخروج التي أحدثتها بريطانيا، يتخوف زعماء أوروبيون من أن يفشلوا في وقف الانهيار.
ولكن، لماذا قرر البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ القصة أبعد من أرقام ومن بروتوكولات تجارية تنظم العلاقات بين مجموعة من دول.. اليسار البريطاني لم يكن يوما أحمر، وكارل ماركس، المدفون في مقبرة لندنية، والذي ألبسه البعض لباس الشيوعية غصبا، لم يكن وفق تعبيرهم ماركسيا.
التكامل الأممي والتنوع الذي استند إليه دعاة الوحدة الأوروبية ومؤيدو البقاء، واجهه صعود واضح للمد القومي البريطاني، الذي دافع عن خصوصية الهوية البريطانية وعن الاستقلال السياسي والاقتصادي. كيف يمكن لبلد، تفاخر يوما أنه إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، أن يترك بروكسل تتخذ القرارات بدلا عنه.
هل يترك البريطانيون غرباء يخططون عوضا عنهم لقضايا هامة ومصيرية مقلقة مثل الإرهاب والهجرة. وماذا عن استقلالهم الاقتصادي، ومعدلات الفائدة والتضخم. وإن كان لهم أن يشاركوا الآخرين مثل تلك القضايا، أليس الأفضل أن يكون الطرف الآخر الولايات المتحدة ودول أميركية تجمعهم بهم روابط ثقافية واجتماعية.
تساؤلات حسمت نتائج الاستفتاء الذي جرى في شهر يونيو عام 2016. بالإضافة إلى عوامل أخرى لم تكن الأرقام واحدا منها.
خلال عقد كامل سبق التصويت على البريكست عاش العالم أزمة اقتصادية ما زالت تبعاتها تلاحقنا حتى اليوم، وفشل الاتحاد الأوروبي بمؤسساته الرسمية، في بروكسل وفرانكفورت، في تقديم حلول لها، ليقرر البريطانيون تقديم درس لكل الأوروبيين، ومعاقبة طبقة السياسيين والمصرفيين الفاشلين على عقد كامل من الخيبات، حسب نك روبنسون مراسل الـ”بي.بي.سي.”
هل من العدل أن تتحمل بريطانيا فشل بروكسل، وعجز دول صغيرة بما فيها بولندا وهنغاريا واليونان وحتى البرتغال، عن حل مشاكلها الاقتصادية. وكيف يمكن إقناع البريطانيين، الذين يفاخرون بخبراتهم في أسواق المال أن يشاركوا تلك الدول الفاشلة عملة واحدة وسياسة مالية واحدة.
لقد ودعت بريطانيا، منذ الثمانينات، مرحلة سيطرت فيها النقابات على صناعة القرار السياسي والاقتصادي، لم تعد لندن كما كان يصفها الفرنسيون عاصمة للبقالين، وورشات الخياطة، ولن تسمح لليسار أن يعود بها إلى لوراء، أو للنقابات العمالية أن تشل اقتصادها.
مع سيطرة اليسار الأوروبي على مفاصل المفوضية الأوروبية في بروكسل والبنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، أصبح الفساد سمة بارزة، مشاريع بائسة وأموال طائلة مبددة، لقد استوعب البريطانيون الدرس: افعل كل شيء ما عدا الوثوق باليسار.
وأثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية التي امتدت على مدى عشر سنوات، وسبقت الاستفتاء، فشل المؤسسات الدولية في إيجاد الحلول، إن لم نقل أنها في الحقيقة زادت الأمر سوءا، وأصبح من حق المواطن البريطاني أن يتساءل ماذا قدم الاتحاد الأوروبي من خدمات سوى اجتماعات دورية، أرهقت المواطن الأوروبي واستنزفت ميزانيات الحكومات.
الربيع العربي أيضا، كان له دور في غلبة الأصوات المؤيدة للبريكست، عندما عجزت أوروبا عن معالجة أزمة اللاجئين في خريف 2015، وتزايد ظاهرة الإرهاب الذي طال بروكسل وباريس، ثمن فادح حسب مؤيدي البريكست، وسبب كاف للخروج.
وخلال الساعات الأخيرة التي سبقت الاستفتاء، تحالفت الطبيعة ضد معسكر الراغبين في البقاء، حيث ضربت عاصفة رعدية العاصمة وأجزاء واسعة من جنوب شرق المملكة المتحدة، تسببت في شلل خطوط النقل العام، خاصة في لندن، عند ساعة الذروة في الخامسة مساء، مع خروج الموظفين والعمال. وإذا ما عرفنا أن لندن كان يعول عليها أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي لجذب أكبر عدد من المؤيدين، عرفنا حجم الضرر جراء ذلك.
وهز حادث إرهابي مدينة ألمانية في منتصف اليوم المحدد لإجراء الاستفتاء، وتناقل الناس الأخبار، مما أثر بشكل خاص على المترددين البالغة نسبتهم 10 بالمئة. ورغم أن استطلاعات الرأي التي سبقت الاستفتاء خلال الساعات الأخيرة أظهرت تقدما في معسكر الداعين إلى البقاء، لم تجر رياح الاستفتاء وفق أحلام الرومانسيين والحالمين بعالم تزول فيه الحدود.
ولكن، دعونا لا نستبق الأحداث، نحن نعيش في عصر الكلمة النهائية فيه لمواقع التواصل الاجتماعي. سبق أن خابت توقعاتنا مرتين، مرة أعلن فيها البريطانيون رغبتهم في الخروج عن الاتحاد، وأخرى اختار فيها الأميركيون دونالد ترامب رئيسا.
أيام فقط ونعرف من سيضحك أخيرا.. جونسون أم كوربين؟