التنافس الأميركي – الروسي في الشرق الأوسط في زمن بايدن
د. خطار أبو دياب
أبدى جو بايدن حرصه، منذ إعلان فوزه بالرئاسة الأميركية، على طمأنة قادة العالم، خصوصا الحلفاء، بأن الولايات المتحدة عائدة، وسوف تقود العالم مجدّدا بعد الحقبة الترامبية الاستثنائية. لكن طموح الإدارة الجديدة من أجل تقوية القيادة الأميركية العالمية وترميم سمعة الولايات المتحدة، داخليا وخارجيا، يصطدم بوقائع المتغيرات العالمية في السنوات الأخيرة وصعود الصين وروسيا تحديدا.
إزاء ارتسام التجاذب بين واشنطن وموسكو، سيكون الشرق الأوسط أحد المسارح البارزة للبدايات الصعبة بين سيدي البيت الأبيض والكرملين. وإذ نسمع الكثير من الجعجعة أو الضجيج من الجانب الأميركي في ملفات حساسة، يبدو الجانب الروسي مصمما على التمسك بمكاسبه وربما تعزيزها. ولذا سيحتدم الصراع العالمي على ضفاف الخليج العربي وفي بقاع المشرق وفي سنوات بايدن لن تكون المهمة سهلة في سياق اختبار القوة الأميركي – الروسي.
اتسمت العلاقة بين واشنطن وموسكو باستمرار التوتر خلال الولاية الأميركية السابقة، لكن للمفارقة لم تهتز الصِّلة الشخصية بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. ومن اللافت أن عهد ترامب بدأ في 2016 مع اتهام روسيا بالتدخل في حرب إلكترونية لصالحه، وانتهى أواخر 2020 مع اعتراف واشنطن باختراق سيبراني هائل وأيضا كانت روسيا موقع الشك الأول. ومع وصول الإدارة الديمقراطية الجديدة، بدت موسكو حذرة من توجهاتها ومن العودة إلى نهج مؤسساتي في العلاقات والأولويات الأميركية. لكن للوهلة الأولى، أعطى بايدن إشارة إيجابية بعد أيام على تمركزه في البيت الأبيض مع تسهيل توصل البلدين إلى اتفاق حول تمديد معاهدة نيو ستارت حول الأسلحة الإستراتيجية الهجومية. وحيال التساؤل عن السبب وراء اتصال أجراه بايدن مع بوتين، وكان أول اتصال له مع زعيم عالمي، فسر البعض ذلك دليلا على الاهتمام بالصلة مع موسكو، لكن ضغط عامل الوقت لإنجاز التجديد.
وبرز بعد ذلك التشدد الأميركي إثر تطورات قضية نافالني التي أخذت تلقي بثقلها على مجمل العلاقات الروسية – الغربية. وزادت الأمور تدهورا بعد مداخلات بايدن وردة فعل موسكو. وكان بايدن مباشرا ولهجته حازمة عند تطرقه إلى العلاقة مع موسكو خلال أول خطاب دبلوماسي له منذ توليه الرئاسة، إذ أعلن عن عهد جديد في السياسة الخارجية الأميركية. وقال بايدن حرفيا إنه أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأن أيام تراجع الولايات المتحدة في مواجهة ما وصفها بأنها أفعال عدائية من جانب روسيا قد ولت. ولم تتأخر ردة فعل الكرملين الذي وصف التصريحات التي أدلى بها بايدن بـ”الخطاب العدواني وغير البناء”، مشيرا إلى أنه لن يتهاون مع أي إنذارات أميركية.
ستنعكس هذه الأجواء على الصفيح الساخن للشرق الأوسط الملتهب خصوصا في الملف الإيراني والنفوذ الروسي في سوريا والملف الليبي والعلاقة مع تركيا ومستقبل الصراع الإسرائيلي – العربي بالإضافة إلى صراعات النفوذ والطاقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر.
لا يتمسك الفريق الجديد للسياسة الخارجية في واشنطن بكل ما أنجزه الثنائي ترامب – كوشنير خصوصا تشريع ضم الجولان والملف الفلسطيني. واللافت أن وزير الخارجية بلينكن يتحدث عن “السلام” بين إسرائيل والفلسطينيين بطريقة مختلفة ظنّت إسرائيل أنها انتهت بعد “صفقة القرن” واتفاقات التطبيع مع دول عربية خليجية وأخرى أفريقية.
التعارض الأهم مع الإرث الترامبي يكمن في الملف الإيراني وكذلك حرب اليمن والموقف من المملكة العربية السعودية، أما حول التطبيع الإسرائيلي مع عدة دول عربية وملفات سوريا والعراق والحرب ضد الإرهاب وليبيا ستكون الاستمرارية هي السمة البالغة. حيال التموضع الأميركي الجديد الملتبس أو المتردد بالنسبة للعديد من الأطراف المعنية، تبدو روسيا بوتين واثقة من خياراتها وقدرتها على التكلم مع الجميع وأن تكون صديقا أو محاورا لكل الأطراف الرئيسية من إيران إلى إسرائيل وتركيا ومصر والمملكة العربية السعودية والجزائر.
ومما لا شك فيه أن الملفات الخلافية تتزايد عالميا: الحرب الإلكترونية والسيبرانية بين واشنطن وموسكو وأثر العقوبات الأميركية والخلاف حول أوكرانيا وتوسيع حلف شمال الأطلسي وموقف واشنطن ضد خط السيل الشمالي للغاز الروسي نحو ألمانيا، بالإضافة إلى التناغم الصيني – الروسي والملف الكوري الشمالي وأخيرا الموقف من انقلاب ميانمار. إنها حرب باردة جديدة بشكلها تمثل واشنطن طرفا فيها لمواجهة الصين وروسيا سويا أو بشكل منفرد. ويضع كل ذلك على المحك مبادئ بايدن المنتمي إلى ما يُعرف بالمدرسة الليبرالية في السياسة الخارجية، التي تعتبر أن التعاون، وليس الصراع، هو الأصل في العلاقات الدولية وأهمية وجود منظمات دولية تعمل على حماية السلم والأمن الدوليين، وتساعد في مواجهة التحديات العالمية التي لا يمكن لدولة واحدة مواجهتها بنفسها.
عمليا في الشرق الأوسط، لن تكون دروب بايدن معبدة وسهلة، وأنه ربما يكون أخطأ في تحديد أولوياته. وحسب مصدر أميركي “كانت هناك صدمة عندما لم يذكر بايدن في خطابه الأول الذي ألقاه في وزارة الخارجية إسرائيل وإيران، في حين انتقد الحليفة المزمنة لبلاده أي المملكة العربية السعودية ودعا إلى إنهاء حربها على اليمن أو فيه، وأعلن قراره عدم بيعها أسلحة وذخائر تتصل بهذه الحرب، وفي الوقت نفسه تمسّكه بمساعدتها للدفاع عن حدودها”. واستغرب مصدر آخر “سبب التركيز على السعودية رغم أنها بدأت عملية تحديث مهمة جدا اجتماعيا واقتصاديا وعن سبب تجاهل ذكر إيران وانتقادها رغم ممارساتها وانتهاكاتها وسجلها في مجال الحريات على أنواعها”.
والأدهى بالنسبة إلى فريق بايدن أن الحليف الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط إسرائيل ترى في إيران خطرا مباشرا عليها وتخشى من صفقة جديدة لا تراعي مصالحها وتجعل “الشرق الأوسط بحيرة نووية من دون ضوابط” حسب تعبير خبير أوروبي.
في مقاربة الملف الإيراني تناور موسكو للحفاظ على شراكتها مع طهران دون الوصول إلى تعارض أو صدام مع واشنطن، وهي من خلال توثيق علاقاتها بالدول العربية في الخليج توسع رقعة علاقاتها وتنافس الهيمنة الأميركية التي سادت منذ سبعينات القرن الماضي. وفي الملف السوري، يبقى الاختراق الروسي بحاجة لوفاق مع واشنطن لمنحه إكسير الدوام. وفي الملفين السوري والليبي كما ملف شرق المتوسط ستكون العلاقة الروسية – التركية تحت مجهر إدارة بايدن. وكل ذلك سيزيد من التشابك في ملفات الشرق الأوسط التي يمكن أن تتعقد من دون استئناف الحوار الروسي – الأميركي والمساومة بين الجانبين.
اعتبر بايدن أن “روسيا مصممة على إلحاق الأذى بالولايات المتحدة وديمقراطيتها”، ومن الواضح أن قدرة روسيا على إيذاء الغرب تفوق قدرتها على منافسته (على عكس قدرة الصين). وينطبق ذلك على الشرق الأوسط حيث سيكون التنافس الحقيقي بين الولايات المتحدة والصين.
تبدو المبارزة الأميركية – الروسية واضحة حول منظومة القيم وأساليب العمل وتناقض المصالح على أكثر من مسرح، ويبدو أن إدارة بايدن لا تطبق أسلوب إدارة أوباما في أول عهده حينما سعى لإعادة ترتيب العلاقة مع روسيا، بل تشبه أكثر نهج إدارتي بوش الابن وكلينتون في محاولة منع روسيا من العودة بقوة إلى المسرح الدولي، أما موسكو فلا ترغب إطلاقا بالمساومة وتصر على تطبيع ممكن للعلاقات الثنائية بناء على الاحترام المتبادل وتوازن المصالح في عالم أكثر اضطرابا.