الجنرال وقت والجنرال البرهان
محمد أبو الفضل
لعب الوقت دورا مهما في المقامرة التي قام بها قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان لتغيير قواعد اللعبة السياسية خلال المرحلة الانتقالية لصالحه، واعتبر البعض أن التوقيت الذي اختير بعناية أسهم في ثبات موقف المؤسسة العسكرية بعد حدوث الانقلاب، وأثّر سلبا على موقف القوى المدنية وقلل من إمكانية مراعاة شروطها كاملة في الوساطات التي تقوم بها دوائر متباينة.
وبدت رغبة البرهان في قلب الطاولة السياسية محسوبة في سياقات مختلفة، بما يمنحها فرصة جيّدة لتحقيق أغراضها في المزيد من فرض هيمنة الجيش على السلطة.
جاءت الخطوة وسط حالة كبيرة من التشظي أصابت غالبية القوى المدنية، أفقدتها تلاحمها الذي ظهرت عليه وقت سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وجعلت صورتها قاتمة في الشارع كأنها غير معنية سوى بحصد المكاسب الشخصية.
لم يتحرك البرهان إلا عندما تيقن أن عددا من المفاتيح الأمنية في المناطق الحيوية بحوزة قيادات عسكرية يثق بها، وبعد تخلصه من عناصر مشكوك في ولاءاتها السياسية، فالانقلاب الذي قام به في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي حدث في توقيت بلغت فيه المشكلات الاقتصادية حدا سيئا كشف محتواها عن قلة حيلة حكومة عبدالله حمدوك، وانفضت قوى مثلّت ظهيرا سياسيا له واقتربت من الجيش.
تصاعدت الضغوط على الحكومة المعزولة بشكل متزامن في بعض الأقاليم، ففي الغرب تزايدت ارتدادات اشتباكات دارفور القبلية، وفي الشرق تسبب إغلاق موانئ البحر الأحمر والطريق الواصل إلى الخرطوم في عدم وصول الكثير من السلع الأساسية إليها بما زاد النقمة على حمدوك، وفي الجنوب فرضت الحركة الشعبية، جناح عبدالعزيز الحلو، سطوتها على أجزاء كبيرة في المنطقة المعروفة بجبال النوبة.
أسهم الجنرال وقت بدور معتبر على المستوى الخارجي وتبيّن لجهات كثيرة أن قيادة الجيش تتحكم في الحل والعقد وليس الحكومة التي تضم سياسيين أقرب إلى الهواة، وظهرت ملامح القبضة العسكرية في موقف الجيش الإيجابي من التطبيع مع إسرائيل، وتطوير العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي أزمة سد النهضة، واسترداد منطقة الفشقة المحتلة من القوات الإثيوبية.
كان الوقت حاضرا أيضا في عدم التفريط بورقة روسيا وتركها مفتوحة، فمع كل الضغوط الأميركية لعدم منح موسكو تسهيلات في البحر الأحمر، إلا أن الجيش لم يلغ الاتفاقية البحرية الموقعة معها، واحتفظ بها كورقة يمكن الرجوع إليها في وقت ما، وهو ما مكن البرهان من التلويح بها قبل أيام، مع ذلك ترك الباب مواربا حسب نتيجة التفاهمات التي يمكن أن يصل إليها مع واشنطن في المستقبل القريب.
ظهرت نظرية الجنرال وقت في موعد الإعلان عن الانقلاب نفسه، حيث جاء بعد ساعات قليلة من لقاءات عقدها المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي جيفري فيلتان مع البرهان وحمدوك ومسؤولين كبار من المكونين العسكري والمدني، ما يعني أن هناك قصدا لتوجيه لطمة على وجه الإدارة الأميركية وقلة الاعتداد بردود أفعالها لاحقا، وهو ما برز مع البيان المشترك للولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات.
مضت نحو عشرة أيام ولم تتغير القواعد التي يسعى البرهان لتثبيتها، فلم يرضخ للضغوط الغربية ولم يستجب تماما للوساطات الخارجية، وأخفقت القوى المدنية في إجباره على العودة إلى المربع السابق.
يعلم كبار قادة الجيش أنه في اللحظة التي يستسلمون فيها لهذا المطلب يمكن أن تعلق رقاب بعضهم على المقاصل في شوارع السودان، لذلك فالتعويل على الوقت هو عنصر مهمّ فقد يتكفل بتغيير بعض المعطيات لصالح الجيش.
أدرك الفريق البرهان أن الانقلابات العسكرية التي جرت في بعض الدول الأفريقية في الفترة الماضية لم يعد قادتها إلى ثكناتهم مرة أخرى على الرغم من التنديد البالغ بها، ونجح الكثير من القادة في امتصاص الغضبة الغربية مع مرور الوقت، فما بالك إذا كان المنقلبون في السلطة أصلا، الأمر الذي سهل مهمتهم ومنح قائدهم جرأة في اتخاذ الخطوة في توقيت خبروا فيه جيدا آليات التعامل مع القوى الرئيسية.
وظف الجنرال البرهان الجنرال وقت، من حيث الموعد الذي اختاره لتدشين خطوة بدت مؤجلة منذ رئاسته المجلس العسكري، وانتظر أكثر من عامين ليقوم بتصحيح خطأ يعتقد أنه ارتكبه أو دفعته إليه الأجواء الساخنة التي أحاطت بعملية سقوط البشير.
واتت الفرصة قائد الجيش عندما تأكد من تشرذم القوى المدنية وعدم وجود حاضنة سياسية متماسكة أو أحزاب متعاونة، ومهّد لخطوته بعدم المساس بإرث البشير في عملية تغوّل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد والأمن، والتأكيد على أنها صاحبة قرار نهائي في الدولة وضامنة للاستقرار فيها.
في هذا التوقيت، عمل البرهان على خلق صورة ذهنية مختلفة عن الجيش السوداني تبعده عن الصورة النمطية السلبية التي تركتها انقلابات سابقة، واعتمد على شراكة مع المدنيين لتبديد الهواجس حيال أطماع العسكريين في السلطة، مع محاولة تعريتهم سياسيا عبر فشلهم في التعامل مع الأزمات الحياتية كي يطلب المواطنون الاستعانة بالجيش لإنقاذهم من الوقوع في براثن الفقر ووقف خلافات القوى المدنية.
جهّزت المؤسسة العسكرية المسرح ليوم يقفز فيه الجنرال البرهان على السلطة بمظلة شعبية وبلا معارضة كبيرة في الداخل أو معارضة قليلة يفتر حماسها بمرور الوقت.
لم يفتر حماس المعارضة، ولم تفتر ضغوط داعميها في الخارج، وربما يصبح الجنرال وقت في غير صالح الجنرال البرهان، لأن المجتمع المدني لا تزال صلابته قوية، وهناك قيادات داخل المؤسسة العسكرية يمكن أن تجد في حالة الفوران الحالية فرصة للانقضاض وإحداث تغيير آخر يزيد المشهد العام ارتباكا.
يستطيع الجنرال البرهان أن يثق في الجنرال وقت عندما تكون كل الخيوط في يده ونجح في السيطرة على الجزء الكبير منها، غير أن بلدا في حجم السودان وظروفه التي تتسم بدرجة عالية من السيولة السياسية من الصعوبة أن تسير فيه الأمور بصورة منطقية، والترتيبات التي يمكن أن تتخذ اليوم قد يتم تغييرها في الغد.
وهو ما يجعل أي مقامرة للقفز على السلطة والانفراد بها بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب، ففي السودان تتبدل أوراق اللعب كثيرا، والجزء الغاطس في المشهد قد يكون أكثر من الظاهر، ومن يقفون في صف الجيش يمكن أن ينصرفوا عنه مع الوقت.
ومن يبذلون جهدا من قوى خارجية لعودة الحكومة المدنية يحملون ازدواجية ظهرت معالمها في تصريحات تطلق بيانات تكتب بطريقة تفسر على وجوه عدة، ويبقى الفرز النهائي عنصرا حاسما في معرفة مسار كل فريق، ما يعني أن قدرة الجنرال البرهان على فرض إرادة الجيش مربوطة بما يجلبه معه الجنرال وقت.