الدبيبة يشعل فتيل حرب الرئاسيات في ليبيا
الحبيب الأسود
أغلقت مفوضية الانتخابات الليبية أبواب الترشح لأول انتخابات رئاسية ستشهدها البلاد منذ استقلالها قبل 70 عاما، وبعد 29 يوما فقط، سيتجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع للتصويت واختيار رئيس الدولة المنتظر، وذلك بالتزامن مع ذكرى قيام الدولة الاتحادية في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951، قبل أن تصبح واحدة موحدة في العام 1963.
بعد 12 يوما من الآن، ستنشر المفوضية القائمة النهائية لمن سيخوضون السباق الانتخابي، بعد أن يكون القضاء قد حسم الموقف من جميع الطعون التي ستعرض عليه بداية من الخميس، وأصدر أحكامه الاستعجالية التي سيكون لها أثرها الكبير في مصير الانتخابات. هناك امتحان حقيقي للقضاء الليبي الذي حافظ دائما على استقلاليته بالرغم من كل محاولات تدجينه، وهناك مخاوف من أن يتم الإيقاع به في جبّ الحسابات السياسية لرئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة الذي يبدو مستعدا لفعل كل شيء من أجل الوصول إلى منصب الرئيس، وتشكيل ملامح جديدة للدولة، تنسجم مع تطلعات مراكز النفوذ التي تحيط بها، جهويا وفئويا، من مصراتة كمدينة ومن لوبيات المال والأعمال كقوة فعل أساسية، ومن الحليف التركي الذي يريد أن يضحك أخيرا، فيضحك كثيرا، ولاسيما أن البلاد لا دستور لها يمكن الاحتكام إليه لاحقا في تحديد صلاحيات الرئيس.
بالنسبة إلى الاتفاقيات السابقة ومنها تلك المعلنة من قبل ملتقى الحوار السياسي في جنيف أوائل فبراير الماضي، وحتى بالنسبة إلى قانون انتخاب الرئيس الصادر عن مجلس النواب في سبتمبر الماضي، لا يمكن الاعتماد عليها، فالدبيبة كان قد أمضى على التزام بأن يرأس حكومة الوحدة الوطنية لفترة انتقالية تنتهي بانتخابات لا يترشح لها، ولكنه ضرب عصفورين بحجر؛ استعمل سلطاته ومقدرات الدولة لتلميع صورته ولتنظيم حملة دعائية مبكرة لشخصية كزعيم شعبي يتطلع لمنصب رئيس الدولة، وانقلب على الالتزام وقرر أن ينافس بقوة على المنصب، وعندما اكتشف أن هناك مادة في قانون الانتخاب تمنعه من الترشح، قرر أن يتجاوزها ويمضي.
الأحد الماضي قصد الدبيبة مقر مفوضية الانتخابات ليتقدم بملف ترشحه، وهو بصدد مباشرة وظيفته، عكس ما نادت به المادة 12 التي اشترطت أن يكون المترشح قد تخلى عن أي وظيفة عامة يشغلها سواء كانت عسكرية أو حكومية قبل ثلاثة أشهر من موعد الاقتراع، والسبت الماضي ذهب الدبيبة إلى مدينة زوارة الواقعة في أقصى الشمال الغربي للبلاد، ولفّ حول عنقه علم الأمازيغ في وصلة دعائية لمشروعه، وأمر بإصدار قرار بتدريس اللغة الأمازيغية بداية من الموسم الدراسي القادم، ثم قال “سأترشح للانتخابات، ومن سيرفض ترشحي سيخسر الكثير الكثير” منذرا بأن فوضى قد تعم البلاد، وفي ذلك أكثر من إشارة، فرئيس الحكومة غير قابل لفكرة أن يخرج من مولد الانتخاب دون حمّص، والمحيطون به يراهنون بكل قوة على بسط نفوذهم على البلاد لسنوات عدة قادمة، وهم مستعدون للقيام بأي شيء من أجل ذلك، حتى لو تعلق الأمر بإعادة فتح ملف لوكربي لتمكين الأميركان من تعويضات جديدة يخصمونها من الأموال المجمدة لها، أو بتقديم تنازلات مهمة لإيني الإيطالية أو توتال الفرنسية أو غيرها، فجميع المؤشرات تقول إن لدى الجماعة قناعة بأن ليبيا غنيمة ولا يعرف قيمتها إلا جحفل من التجار الشاطرين بقيادة الدبيبة ذاته كمعبّر عن فريق كامل له تفرعات في الداخل والخارج بأجندات محلية وخارجية، وعندما يتعلق الأمر بالثروة، تصبح كل المسائل الأخرى من الهوامش التي يمكن التعامل معها فقط ببعض الذكاء والهدوء وإزجال العطاء لمن يستحق.
بعد تقديمه ملف ترشحه، عاد الدبيبة إلى مكتبه ليسلم مقاليد الحكم إلى نائبه الثاني عن إقليم فزان رمضان بوجناح، طبعا دون أن يتخلى عن آليات السيطرة والتحكم التي يديرها باقتدار، وهو اليوم يتحرك بوثوق تام من أن لا حواجز ستعترض طريقه، رغم أنه مخالف للقانون، وهناك العشرات من المحامين من طرابلس وسبها وبنغازي سيتجهون للقضاء ليطلبوا إلغاء ترشحه للرئاسيات سواء بسبب مخالفته للاتفاق السياسي أو للمادة 12 أو حتى لشرط الجنسية.
أكثر الناس تفاؤلا، يبدو متشائما من الانتخابات الرئاسية المنتظرة؛ فماذا لو قرر القضاء إلغاء ترشح الدبيبة بسبب مخالفته للشروط القانونية؟ هذا يعني أن القوى التي تؤيده ستنطلق في احتجاجات قد تصل إلى صدامات عنيفة، وقد يعود غرب ليبيا إلى مربع الفوضى، فقط لتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أنه من الصعب تنظيم انتخابات في ظل انفلات أمني، وأن المطلوب هو تأجيلها إلى وقت لاحق ليتمكن الدبيبة من الترشح على راحته.
وماذا لو حكم القضاء لفائدة الدبيبة ودفع به إلى الفوز بمنصب الرئيس؟ هنا علينا أن ننتظر موقفا حازما من شرق البلاد وجنوبها، بل وحتى من بعض القوى في المنطقة الغربية التي تراهن بدورها على الاستحقاق. هناك العشرات من إقليم طرابلس ترشحوا للسباق، وأغلبهم يعتبرون أنفسهم منافسين جديين للدبيبة ولن يسمحوا له باستغلال نفوذه للتلاعب بالقانون، ومن بينهم فتحي باشاغا وأحمد معيتيق وخليفة الغويل ونوري بوسهمين وغيرهم.
وماذا لو شارك الدبيبة في السباق الرئاسي ثم فشل في الوصول إلى كرسي الرئاسة بسبب حدة المنافسات على أرض الواقع؟ مبدئيا وبالنسبة إلى أغلب استطلاعات الرأي فإن المواجهة الثلاثية في صدارة المشهد ستدور بين الدبيبة وسيف الإسلام القذافي والمشير خليفة حفتر، وهذا الأمر انتبه إليه فريق رئيس الحكومة، واليوم بات له هدف آخر فوق قبول ملف ترشحه، وهو رفض ملفي ترشح قائد الجيش وابن القذافي.
عندما حاول المدعي العام العسكري الزج بنفسه في الصراع الانتخابي، بدعوته مفوضية الانتخابات إلى رفض ملفي ترشح سيف الإسلام وحفتر، كان ينفذ أوامر مديره المباشر، وزير الدفاع وهو نفسه رئيس الحكومة الدبيبة، ويكرر ما بادر بالدعوة إليه قبل أسبوعين، وحتى قبل ذلك، عندما أصدر أوامره بتجييش عدد من الميليشيات والدفع بها إلى الزنتان للبحث عن ابن القذافي، لكن إشارات وصلته من أكثر من صعيد، لتفرض عليه التراجع عن قراره.
من الطبيعي أن ينحاز المدعي العام العسكري مسعود رحومة إلى المهندس الدبيبة، وأن يكون في خدمته، خصوصا وأنه من أعاده في أغسطس الماضي إلى المنصب الذي كان عزل منه في العام 2018 بعد أن تعرض آنذاك للاختطاف لعدة أيام على أيدي مسلحي إحدى الميليشيات بطرابلس إلى أن نجح في الفرار بمساعدة عامل سوداني، وطبعا لم يستطع ملاحقة خاطفيه، ولا ينبغي له ذلك، لأنه يعرف أن غضبهم صعب، وأن انتقامهم شديد.
هناك موقف دولي منتظر خلال الساعات القادمة قد يأتي من مجلس الأمن ليكون حاسما بإقرار السماح للجميع بالمشاركة في الانتخابات، وذلك طبعا لخدمة الدبيبة، ولكنه سيقطع الطريق أمام أي محاولة للتشكيك في شرعية ترشح سيف الإسلام أو المشير حفتر، وسيضع الجميع أمام امتحان التصويت الشعبي في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم. لكن التحدي الأكبر سيكون حول مبدأ الاعتراف بالنتائج من قبل من لا يراها منسجمة مع مشروعه وتطلعاته، ولاسيما في غرب البلاد الذي لا يزال محكوما بأمزجة النافذين وحسابات الإخوان ومصالح الميليشيات ومؤامرات القطط السمان التي لن تسمح بالتنازل عما حققته خلال السنوات العشر الماضية من مكاسب غير محدودة.