الشركات الأوروبية تستعد لصدمة تضخم الأجور والاحتجاجات النقابية
وسط مفاوضات أجور صعبة داخل سوق عمل ضيقة، واحتجاجات واسعة في معظم العواصم الأوروبية نتجت عن الغلاء وارتفاع الأسعار، تستعد الشركات الأوروبية التي تتعامل مع أسوأ أزمة طاقة وتضخم منذ أربعة عقود لصدمة جديدة وهي تضخم الأجور والتهديد المتزايد بتحركات عمالية.
تجلى هذا الحال المشؤوم في موسم الأرباح الأخير عبر تحذير معظم الشركات الكبرى في أوروبا ومنها “يونيليفر” (Unilever) و”نستله” و”لوريال” (L’Oréal) و”سوديكسو” (Sodexo) و”أهولد ديلهايز” (Ahold Delhaize) من أنها ستضطر لرفع الأسعار في 2023 .
جاء ذلك التحذير بينما يتفاعل موسم الإضرابات قُدماً في جميع أنحاء أوروبا، حيث يسعى العمال الذين يعانون من أكبر انخفاض في الدخل الحقيقي منذ سنوات لزيادة الأجور.
فققد أعلن العاملون لدى “توتال إنيرجيز” (TotalEnergies) في فرنسا، وطيارو شركة الطيران الإسكندنافية “إس إيه إس” (SAS) وموظفو الإنتاج في شركة “ستيلانتيس” (Stellantis) لصناعة السيارات في إيطاليا إضرابات في الأشهر الأخيرة، فيما أُلغي أحدث إضراب في سلسلة إضرابات عمال السكك الحديدية البريطانيين قبيل بدايته الأسبوع الماضي، لكن موظفي خدمة البريد الملكي البريطانية يخططون لإضرابات في نوفمبر وديسمبر. كما صوّت عمال شركة “دي إس سميث” (DS Smith) لتصنيع العبوات في المملكة المتحدة، والتي تُعدّ مورّداً لشركات متعددة الجنسيات منها “أمازون”، لصالح إضراب في 7 نوفمبر.
قد تجلب مطالب رفع الأجور ضغطاً إضافياً على صافي أرباح الشركات مع شبه انعدام في نمو الإنتاجية ودخول عدد من بلدان منطقة اليورو وبريطانيا ركوداً اقتصادياً. بيّن مارك شنايدر، الرئيس التنفيذي لشركة “نستله”، إن الرواتب ستشكل قضية مهمة جداً في الأشهر المقبلة، وقال لتلفزيون بلومبرغ: “نحن نراقب ما يجري عن كثب… ستبدأ مفاوضات 2023 خلال الشتاء وفي الربع الأول في معظم البلدان”.
غرض النقابات
ارتفعت الأسعار في منطقة اليورو بمتوسط قدره 10.7% في أكتوبر، لتسجل أعلى مستوى لها على الإطلاق، في حين نمت معدلات الأجور في الربع الثاني 4.1% فقط مقارنة مع العام السابق. تسعى النقابات لتضييق الفجوة، رغم نقص العمالة الماهرة التي تمنحها نفوذاً لذلك. قالت ميلاني بيكر كبيرة الاقتصاديين في “رويال لندن أسيت مانجمنت” (Royal London Asset Management) إنها “لن تتفاجأ بتضخم أكبر في الأجور” في ظل أضيق سوق عمل..
إن حدث ذلك، فسيكون مزودو الخدمات الكبار مثل “سوديكسو” وتجار التجزئة مثل “أهولد ديلهايز” أكثر عرضة لتكاليف الرواتب المرتفعة. كما تتوقع مجموعات مثل “نستله” و”يونيليفر” إجراء مفاوضات عمالية في معظم أسواقها.
لافتات حمراء وصفير
تتعامل شركات أخرى حالياً مع إضرابات. فقد خرج موظفو شركة “إيرباص” (Airbus) من مصنع تجميع في بريمن بألمانيا احتجاجاً الأسبوع الماضي وسط لافتات حمراء وصفير سعياً لزيادة الأجور 8%. احتج اتحاد عمال “آي جيه ميتال” (IG Metall) أثناء التفاوض نيابة عن 3.9 مليون عامل تصنيع، بينهم عدد من العاملين في شركة “إيرباص” بأن زيادات الأجور ضرورية لسداد فواتير الطاقة المتصاعدة، التي أصبحت الآن أعلى بنسبة 40% في منطقة اليورو عما كانت عليه العام الماضي. رداً على ذلك، أصر اتحاد أرباب العمل الذي يمثّل “إيرباص” و”مرسيدس بنز” و”فولكس واجن”، إلى جانب شركات أخرى، على أنه ليس هناك أرباح إضافية لتمريرها إلى العمال.
قال ستيفان وولف رئيس شركة “غيسامت ميتال” (Gesamtmetall): “خلال هذه الفترة لن يكون هناك نمو يمكن توزيعه”، مضيفاً أن الشركات تضررت من التضخم أيضاً. رغم أن قرار ألمانيا الأخير برفع الحد الأدنى للأجور 22% قد يشجّع النقابات إلا أنه ربما يؤجج التضخم في الاقتصاد الأوسع.
فقدان القوة الشرائية
قد تعقّد دوامة أسعار وأجور جهود البنك المركزي للسيطرة على التضخم. رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة الرئيسي بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية للمرة الثانية الشهر الماضي، وأشار لوجود زيادات أخرى مقبلة. حتى لو أدت هذه الزيادة في تكاليف الاقتراض إلى حدوث ركود معتدل، إلا أن رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد حذّرت من أنها لن تكون كافية لكبح جماح الأسعار.
يضع هذا الشركات في موقف صعب. قالت فيليبا سيغل غلوكنر المديرة الإدارية لمركز “ديزيرينات زوكونفت” (Dezernat Zukunft) للأبحاث الاقتصادية الذي يقع مقره في برلين: “كان النصف الأول من العام سهلاً لمعظم القطاعات لأنه يمكنها تمرير ارتفاع الأسعار إلى المستهلك.” في حين فرضت شركات مثل “يونيليفر” ارتفاعاً قياسياً في الأسعار، إلا أنها لم تمرر جميع تكاليف المواد والتشغيل إلى المستهلكين، وسيكون تعويض هذا الهامش صعباً. قالت سيغل غلوكنر: “إن الطلب العالمي يضعف، ولن يقبل المشترون ارتفاعات أخرى في السعر”.
لن يُقنع هذا الأساس المنطقي للحد من ارتفاع الأجور على الأرجح عديداً من النقابات، التي شاهدت الشركات خلال العام الماضي وهي تمرر زيادات قياسية في الأسعار مع نتائج محدودة فقط على مبيعاتها.
وقالت ماريا دمرتزيس نائبة مدير مركز “بروغيل” (Bruegel) للأبحاث الاقتصادية والذي يقع مقره في بلجيكا، التي تربط الأجور بالتضخم: “الآن بعد أن بدأنا نعي أن التخصم مستمر سيكون هنالك ضغط هائل لزيادة الأجور. فقدت الأسر جزءاً كبيراً من القوة الشرائية ما يعني ضغطاً أعلى في أي إضراب نقابي مقارنة مع ظروف مغايرة”.
مشكلة تضخم الأجور
يُعدّ منظور مفاوضات الأجور حساساً بشكل خاص بالنسبة للعلامات التجارية الاستهلاكية، حيث تخضع شركات مثل “نستله” و”يونيليفر” لتدقيق مكثف بحثاً عن أي مؤشر على احتمال تلاعبها بالمستهلكين، ومع وجود مئات آلاف الموظفين حول العالم، لا يمكن لهذه الشركات تحمل ثمن أن يُنظر إليها على أنها تغبن عامليها. حاولت بعض الشركات قطع دابر هذه المشكلة، فرفعت شركة البقالة البريطانية “جي سينزبيري” (J Sainsbury) أجر العمال في الخط الأمامي بنسبة 7.9% هذا العام وأضافت طعاماً مجانياً وخصومات عند الشراء من متاجرها. قالت مجموعة مستحضرات التجميل “لوريال” إنها وافقت على زيادات أعلى من المعتاد في الأجور.
رفعت “نستله” رواتب العمال ذوي الياقات الزرقاء في الولايات المتحدة، وتوقع المدير المالي فرانسوا إكزافييه روجيه في مكالمة مع المحللين أن يصبح تضخم الأجور مشكلة أكبر في بداية 2023. أبدى يورغن إيسر، المدير المالي لشركة “دانون” (Danone)، ذات الرأي بقوله إن تضخم الأجور يُصنّف إلى جانب ارتفاع تكاليف الطاقة وأسعار الحليب كأحد المخاوف التي تواجهها عملاقة صناعة الألبان.
أنفقت “يونيليفر” 5.1 مليار يورو (5.1 مليار دولار) على الرواتب والأجور العام الماضي، لذا فإن أبسط زيادات الأجور على نطاق عالمي قد تقضي على أرباح تُقدّر بمئات ملايين الدولارات. دفعت الشركة التي تصنع مايونيز “مارمايت” (Marmite) و”هيلمان” (Hellmann) لجميع موظفيها البالغ عددهم 148 ألفاً منذ 2020 تعويضاً معيشياً، وهو يُعرّف بشكل مستقل على أنه كسب ما يكفي لتوفير مستوى معيشي لائق محلياً، كما تعهدت بتلبية هذا المعيار لمورّديها البالغ عددهم 54 ألفاً بحلول 2030. قال غرايم بيتكيثلي مدير “يونيليفر” المالي الشهر الماضي إن الشركة متعددة الجنسيات ما تزال تجمع بيانات حول كيفية تأثير زيادة الأجور على أعمالها.
ضربة للأرباح
تبدو المخاطر كبيرة لشركات خدمات الأعمال مثل “سودكسو” و”كومباس” لأن عقودها مع العملاء تُحدّد عادةً قبل سنوات، لذا فإنها تواجه خطراً كبيراً وهو أن توقعات رواتب الموظفين ستفوق استشراف الميزانية. كافحت “سودكسو” لإشغال الوظائف، خاصة في الولايات المتحدة، حيث يؤدي نقص العمال لرفع الأجور. أبلغت “كومباس”، التي أنفقت 9.3 مليار جنيه إسترليني (10.7 مليار دولار) على نفقات الموظفين العام الماضي، عن ربح قدره 357 مليون جنيه إسترليني فقط، في إشارة إلى أن الزيادات الكبيرة في الأجور قد تمثّل ضربة مؤلمة لأرباحها النهائية.
ما يجري قضية عالمية ليس لها حل بسيط. تركّز العام الماضي مثلاً 24% من القوى العاملة لدى “دانون” التي بلغ عددها 97737 في أميركا اللاتينية المشهورة بمعدلات التضخم المذهلة، إلى جانب 26% في أوروبا، حيث التضخم أضعف لكن النقابات أقوى. يعني ذلك أن الشركة ستضطر إلى التفاوض بشأن مطبات الأجور ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن في أجزاء أخرى من العالم ذات آليات اقتصادية متباينة بشكل كبير. قال إيسر مدير “دانون” المالي: “سننظر في واقع الأمر حسب وضع كل بلد على حدة”. أصبح الضغط أكبر من أي وقت مضى على الشركات لخفض إنفاقها مع استمرار ارتفاع التضخم، لكن كبح الأجور قد يأتي بنتائج عكسية. ستظهر الأشهر المقبلة ما إذا كانت الأجور هي من التكاليف التي لا تستطيع الشركات تحمّل نتائج خفضها.