الصادق بلعيد الذي أغضب التونسيين مرتين
حكيم مرزوقي
يبدو أن رجل القانون التونسي المخضرم العميد الصادق بلعيد، البالغ من العمر 83 عاما، قد أغضب التونسيين مرتين: الأولى زمن بورقيبة، عندما ترأس اللجنة التونسية في قضية الجرف القاري التي جمعت الدولة التونسية بجارتها الليبية في خضم خلاف حول رواسب صخرية متعددة المعادن تضم كميات هائلة من البترول والغاز والثروات السمكية والمعدنية، بين عامي 1978 و1982.
يومها خسرت تونس القضية أمام محكمة لاهاي نتيجة تعنته، وعلى الرغم من أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، قد اقترح في البداية، الاستغلال المشترك للمنطقة المتنازع عليها، ولكن هيهات، فلقد سبق السيف العذل، وخسرت تونس فرصة أن تكون دولة بترولية مكتفية بحصتها من صيد الإسفنج كما قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية في معرض تعليقها “لا ينازع أحد في أن وزن النفط الليبي أثقل من الإسفنجات التونسية”.
أما القضية الثانية التي أغضب فيها الصادق بلعيد، قسما كبيرا من التونسيين، فهي تبرؤه من نسخة الدستور المعروضة على الاستفتاء ونشر نسخته الخاصة في وسيلة إعلامية بعد نهاية أعمال الهيئة، بصفته رئيس اللجنة الاستشارية المكلفة بصياغة مشروع دستور جديد لتونس، من أجل تأسيس “جمهورية جديدة”، وذلك في خطوة وصفها المراقبون بالتنكر للمسؤولية، ومحاولة إحداث حالة تصدع وإرباك في جسم الرئاسة التونسية.
ومهما كانت تبريرات بلعيد لهول ما أقدم عليه، فإن ذلك لا يمنحه الحق في إخراج بعض الخلافات العالقة إلى العلن، وجعلها مادة للتداولات الإعلامية والمزايدات السياسية قبل طرح الدستور على الاستفتاء في الخامس والعشرين من يوليو الجاري.
المشكلة أن الرجل يعالج الموضوع بنوع من الفوقية و”الأستذة” المبالغ فيها، حتى مع زملائه داخل اللجنة التي لم تفوّضه لنشر مسودة الدستور ولم تجتمع بعد الثلاثين من يونيو، ولم تصدر أيّ موقف.
وفي هذا السياق يشير عضو اللجنة عماد الحمامي، إلى أن بلعيد لا يملك أيّ سلطة أو حق في نشر هذه المخرجات التي لم يكلف نفسهُ حتى استشارة اللجنة في الصياغة النهائية للدستور ولم يسمح لأعضاء اللجنة بالاطلاع عليها، وذلك في إشارة إلى الفصل الأول من الدستور المتعلق بدين الدولة، والذي تسرب إلى الإعلام قبل الموافقة النهائية عليه.
وقال الحمامي إن الصادق بلعيد، كان عصبيا خلال أعمال اللجنة وهدد بطرد بعض الأعضاء الذين أرادوا إيصال مشروع الدستور إلى بر الأمان.
لسائل أن يسأل: من أين يأتي بلعيد بهذه “العنجهية الدستورية” وهو الذي برز من جديد على مسرح الأحداث بعد انتكاسة قضية الجرف القاري في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، الذي كتب دستور 2014، وترأس أستاذ قائمة “الوفاء” المستقلة، لكنه فشل في نيل ثقة الناخبين، حيث لم يتحصل إلا على 4391 صوتا، آنذاك.
ثمة من يوعز هذا النكوص بالتعهدات لأسباب شخصية تتعلق بالتوجس من الوقوع في عقدة ذنب، بالإضافة إلى حرصه على “نوع من النجومية” بين زملائه من أساتذة القانون، خصوصا أن الرئيس قيس سعيد، أستاذ قانون دستوري معروف في الجامعة التونسية.
كل المبررات التي قدمها الصادق بلعيد، حول تبرّئه من الدستور المقترح في نسخته النهائية، يمكن لها أن تناقش بهدوء وروية مع متخصصين ومهتمين، لكن من غير المعقول أن تطرح بطريقة سوقية على وسائل الإعلام فتمسي محل مزايدات في سوق الوطنيات ثم أن “المجالس أمانات” كما تقول أبسط القواعد الأخلاقية.
الحديث مثلا، عن رجـوع مريب إلى الفصـل 80 من دستور 2014 حول “الخطر الداهم” الذي يضمن من خلاله رئيس الدولة صلاحيات واسعة في ظروف يقررها بمفرده ومدى تمهيده لنظام دكتاتوري مشين، هو الذريعة التي ما ينفك يستخدمها خصوم قيس سعيد، لكن تشتت السلطات من شأنه أن يضعف الدولة ويشجع على تحالفات الفساد.. وهذا سؤال يحل على أرض الواقع وليس على ورق نسخة الدستور.
أما عن غياب البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي من المشروع الذي قدمه الرئيس سعيد، كما يقول بلعيد، فهذا كلام غير دقيق ثم إن الدساتير تهتم عادة بالكليات والأساسيات كخطوط عريضة، ولم تكتب لتكون خطط إنتاج أو مشاريع عمل.
يبدو أن الدستور التونسي صار طبخة وقد تحلق حولها الطهاة، ومصيرها أن تفسد لو تكثر حولها المقترحات.. أرجوكم عجلوا بإحضارها فالشعب جائع ولم يعد يتحمل التجاذبات على وسائل الإعلام كطريقة مثلى للبروباغندا السياسية.