العلاقة التركية الإخوانية.. الواقع والمستقبل
ماهر فرغلي
رأى النظام التركي أنه يمكن استخدام الإخوان وظيفياً داخل الإقليم أو خارجه، لذا قدم للجماعة دعماً غير محدود على اعتبار أنها يمكن أن تكون حلقة وصل مع كل الجماعات في العالم من أجل تصدير صور إيجابية عن أنقرة، وتأمينها العمق الاستراتيجي من خلال خلق ولاءات تؤمن بإحياء الإرث العثماني، والنفاذ من خلالها إلى دول إقليمية مثال ليبيا والصومال واليمن.
من هنا الدعم غير المحدود الذي قدمته أنقرة للجماعة، وكان كالتالي:
منح الجنسية والإقامات: وفّرت أنقرة لعناصر الجماعة الاستضافة والملاذ الآمن، وحين بدأت الطلبات تتوالى لتسليمهم منحت غالبيتهم (خاصة القيادات) الجنسية، ولا تزال تمثل المحطة الأهم والأبرز بين كل هذه الدول فعدد المصريين فيها يتراوح وفق بعض التقديرات بين 7 آلاف و37 ألفاً.
إتاحة التمويلات: وجود الجماعة المتمركز في استانبول وفّر لها الحصول على تمويلات وتحويلات مالية دون مراقبة أو حظر، مما ساهم في تكثيف استثمارات الجناح الاقتصادي للتنظيم، وكان ذلك أحد العوامل التي ساعدتها على تمويل عملياتها، المتمثلة في رعاية أسر مسجونيها، أو دعم جناحها المسلح (حسم – لواء الثورة).
رعاية اجتماعات التنظيم الدولي: كانت أنقرة تصر على دور الراعي لكل اجتماعات الجماعة سواء فرعها المصري، أو اجتماعات التنظيم العالمي في الفترة من 2013 وحتى الآن.
إقامة منصات إعلامية بشكل آمن: ساهمت تركيا في منح الجماعة منصات إعلامية، فضائية أو إلكترونية، بشكل آمن.
توفير الحماية: حمت تركيا الجماعة ليس فقط أمنياً لكن من تصنيفها كإرهابية من خلال دعم لوبيات في الداخل الأميركي، واستغلال قوة العلاقات التركية الأميركية.
ورغم استفادة الجانب الإخواني مما سبق، فإن الإقامة بتركيا كملاذٍ لم تتعد كونها محطة مؤقتة رغم ضخامة الدعم والإيواء، وذلك نظراً لأسباب تتعلق بالجماعة من الداخل، مثل: إحباط الرئاسة التركية من رفض الجماعة لقواعد اللعبة السياسية بعد هزيمتهم في مصر، والأخطاء الإعلامية الفادحة لقنوات الجماعة، التي وصلت إلى الدعوة للقتل، أو اللقاء مع جهات استخبارية أجنبية، والأسوأ هو المعارك بين قيادات الإخوان التي أحرجت الأتراك من قبل المعارضة (وصلت إلى الضرب بالأيدي، وعمل محاضر في أقسام الشرطة التركية، واتهام بعضهم بخطف أعضاء الفريق الآخر).
أطلقت الجماعة وثيقة “اصطفاف” لحل إشكاليات إعادة الهيكلة، وحاولت إبراز نفسها في صورة الجماعة المتماسكة في ظل الضغوطات والأزمات، وكانت المؤتمرات هي الوسيلة المفضلة لها لتسويق ذلك، على سبيل المثال المؤتمر الذي أقيم يوم السبت 13 أيلول (سبتمبر) 2019؛ تحت عنوان “الإخوان المسلمون أصالة الفكرة واستمرارية المشروع”، بحضور 500 من قادة وأعضاء الجماعة حول العالم، بحثوا فيه ظاهرياً “إحياء مشروع الجماعة، وتحديد أهدافها في المنطقة والعالم خلال الفترة القادمة”، بينما بشكل مستتر بحثوا فيه انشقاق التنظيم، وعلى الجانب الآخر كان أردوغان يرى في مثل هذه المؤتمرات التي كان يحضرها مستشاره تسويقاً لنفسه على أنه المدير والمحرك لكل الجماعة لكي يناور بها الغرب والشرق معاً.
ورغم التدابير السابقة انقسمت الجماعة في تركيا لـ3 محاور كل منها يدور حول النواة الواحدة وهي التنظيم، الأول هو التيار التقليدي، الذي يمثله الآن إبراهيم منير عقب سقوط محمود عزت، والثاني هو تيار القرضاويين، الذي يمثله عصام تليمة ومجموعة من الشباب، والثالث هو تيار الكماليين، نسبة إلى القيادي المقتول محمد كمال، وهو تيار أقرب إلى السلفية الجهادية، وفي ظل الانقسامات لم تكن أنقرة تعرف أيا من الفرق المتناحرة يمثل الجماعة، ومع من تتحاور!
أخطأت أيضاً الجماعة بدعمها لحزب (سعادات) باعتباره الحزب الإخواني الأصيل، على حسب العدالة والتنمية الحاكم، ومحاولة تقديم القادة أنفسهم على أنهم رعاة للنظام التركي حين قدموا للرئاسة التركية طلبات متعددة لإصلاح السلطة، مما أثار غضب النخبة الحاكمة بأنقرة.
من جانب آخر كانت هناك أسباب خارجية أهمها ضغط السلطات المصرية والهزائم المتتالية التي تلقتها مكاتب الجماعة الإدارية وهو ما دفع الآلاف للهروب إلى اسطنبول، ووجدت الجماعة نفسها أمام أزمة تمويل كبيرة في تحمل تكلفة الإقامة والتنقلات، خاصة أن عملية الإقامة في تركيا تحديداً ارتبطت بشكل أساسي بجميع المجموعات الإخوانية أو غير الإخوانية مثل الجبهة السلفية والجماعة الإسلامية، وتم توجيه أغلب التمويل الذي تتلقاه من حلفائها إلى معيشة القيادات، مما أدى لمشكلات حول تقسيم الأموال وأوضاع الهاربين، وكان هذا واحداً من أسباب كثيرة أدت إلى تشرذمها إلى فئات داخل اسطنبول.
وأيضاً هناك الأسباب التي تتعلق بالدولة التركية، وأهمها التالي:
1- أحزاب المعارضة وعناصر داخل الحكومة ترى أنه لا بد من عودة العلاقات مع مصر، وتجاوز الملف الإخواني.
2- المخابرات التركية، قدمت تقريراً مفصلاً، على أن العنف والإرهاب في تركيا، يستوجب التعاون مع مصر ودول الخليج.
3- تعقيدات المشهد الإقليمي بما لا يصب في صالح أنقرة، من ناحية المصالحة الخليجية، أو ومعاهدة السلام بين الإمارات وتل أبيب.
4- ترسيم الحدود البحرية، وملف غاز شرق المتوسط، والتعاون الثلاثي المصري القبرصي، الذي لا يخدم الدولة التركية.
5- المعارضة الداخلية القوية، التي تطالب بعودة العلاقات مع مصر، والتخلي عن الجماعة، خاصة عقب وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي، وعدم وجود أهمية للتصلب في مواجهة القاهرة، التي فشلت الجماعة في إسقاط نظامها على مدار سنوات متعددة.
6- التكلفة الكبيرة التي سببها النظام المصري للدولة التركية في جميع الملفات بالمنطقة، خاصة في ليبيا، التي رفض أي دور تركي فيها.
وبدأت للأسباب السابقة محاولات الاستجداء التركي لإعادة العلاقات مع مصر، وجاء الرد المصري بطريقة أكثر تحفظًا، حيث رد سامح شكري وزير الخارجية، أمام البرلمان قائلاً “إن الارتقاء بمستوى العلاقة بين البلدين يتطلب مراعاة الأطر القانونية والدبلوماسية التي تحكم العلاقات بين الدول على أساس احترام مبدأ السيادة ومقتضيات الأمن القومي العربي”.
في المقابل بدأت الحوارات بين الجانبين سراً، ونتج عنها ما نشرته وسائل الإعلام من الضغط على القنوات الإخوانية لإصلاح خطابها، والحديث عن تسليم بعض المطلوبين الخطرين أمنياً، ما جعل مستقبل الجماعة مرتبطاً بشكلٍ كبيرٍ بتطور العلاقة التركية المصرية، وهنا لو حصل ذلك ستكون الجماعة أمام عدد من التأثيرات والسيناريوهات المستقبلية:
أ. التأقلم والذوبان:
ما يعني أن قطاعاً كبيراً من الجماعة الهاربة لتركيا يمكن أن يتأقلم على الوضع، وغالبيتهم حصلوا على الجنسية، أو الإقامة شبه الدائمة بحجة الدراسة الجامعية، والذوبان داخل المجتمع التركي، والحصول على الجنسية التركية.
والملاحظ أنه بعد خطوات التقارب المصري التركي التزمت الجماعة الصمت، وقامت بعدة خطوات أهمها حصول عناصرها وقياداتها وإعلامييها على الجنسية التركية (نجحت بالفعل)، وكذلك نقل الخطرين إلى ملاذات بعيدة، مثل علاء علي السماحي، قائد حسم، الذي حصل على اللجوء في هولندا، وقد صرح ياسين أقطاي مستشار أردوغان المقرب من الجماعة: أن أنقرة لن تسلم أحداً من الجماعة!.
ب. البحث عن ملاذات جديدة:
ظهر اتجاه جديد لدى الشباب الهاربين، يرتبط بـ “التحرك الفردي”، والانتقال من تركيا إلى أماكن أخرى، وبدأ هذا الاتجاه يبرز خلال عام 2017، من خلال البحث عن ملاذات بديلة لهم، وكانت الأولوية ماليزيا، ولكن ظهرت بعض الدول الأخرى أيضا مثل كوريا الجنوبية، وهذا كان واضحاً في واقعة محمد عبد الحفيظ، الذي رحّلته تركيا إلى مصر. ومع سقوط نظام البشير في السودان تصاعدت الأزمة على الجماعة، وهنا بدأت تظهر كوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا وجيبوتي وغيرها كملاذات بديلة مؤقتة، وسبب رئيسي كان هو الدافع لذلك، وهو الخلافات بين أجنحة الإخوان، وتسليم أنقرة لبعض الشباب مثل واقعة محمد عبدالحفيظ، وكانت على وشك تسليم 12 مصريا في شهر مارس عام 2019، كما أن اسطنبول لم تعد جاذبة لعناصر الإخوان بفعل تردي الأوضاع المعيشية للشباب هناك وعدم توفير فرص عمل لهم، وهو ما كشف عن جزء منه القيادي الإخواني جمال حشمت متحدثاً عن صعوبة توافر عمل لنجليه.
هنا ستظهر الأماكن البديلة ومنها جيبوتي، جنوب إفريقيا، أوكرانيا، ماليزيا، وكوريا الجنوبية، التي في الفترة من يناير إلى مايو 2018 قدّم 276 شخصاً طلبات لجوء إليها، من بينهم 112 مصرياً.
ج. البقاء وهيكلة الإعلام:
لقد وضعت الجماعة هيكلة لمرصد إعلامي، ولجنة إعلامية أبرز مهامها الإنتاج الفني، والتدريب، والقيام بالحملات، والتسويق، وعمل صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، بجانب عمل صفحات لشخصيات، وإعلام مرئي، ومقروء، وعمل منتجات إعلامية.
وفي العام الأخير، تم تكوين وتنشيط بؤر جديدة إعلامياً، في مواقع التواصل، واختراق الساحة السياسية إعلاميًا عن طريق عدة محاور: الأول اللعب على الملف الحقوقي، والثاني طرح ملف المصالحة، وتسويق موافقة التنظيم على الصلح، والثالث إعادة تسويق الخلاف الإخواني على أنه بين فريقين أحدهما يرفض العنف، والآخر يصر عليه.
د. البحث عن حاضنة جديدة:
فمن المتوقع أن تكون الحاضنة الرئيسة هي ماليزيا، الولايات المتحدة الأميركية، أو بعض العواصم الأوروبية مثل “لندن”، أو “مدريد”.
في الختام، بسبب كل ما سبق فإنه ورغم حالة الصمت التي التزمت بها الجماعة، فإننا من المتوقع أن نرى فيما بعد ملاذات مؤقتة بديلة، لكنها بعيدة وغير مؤثرة مثل تركيا، التي كانت إلى حد كبير إحدى الفواعل الرئيسية لاستمرار مناهضة الجماعة للأنظمة طيلة السنوات السابقة.