الغرب وخطاب العالم العربي
مر أكثر من عامين على انتشار جائحة كورونا، وأقل من عام على حرب روسيا-أوكرانيا، تعرض خلالهما العالم -ولا يزال- لمخاطر وأزمات كبرى على الأصعدة الاقتصادية والتجارية والغذائية والمالية والعسكرية، وبالطبع السياسية.
بعض هذه المخاطر لم يقع منذ عقود عديدة بهذا الشكل والمضمون. وإذ تحاول دول العالم ومؤسساته الدولية والإقليمية التغلب على هذه الأزمات غير المسبوقة، يبدو واضحا أن أول وأبرز نتائج الجائحة والحرب ما بات يُسمى إعادة تشكيل النظام الدولي القائم منذ عقود، سواء السياسي أو الاقتصادي والمالي والتجاري.
وتتلاحق على هذا الصعيد الإشارات على تجمع تحركات وسياسات تصب جميعها في اتجاه تشكُّل تكتلات دولية وتحالفات مختلفة تنم عن قرب هذا التشكُّل الجديد المتوقع لنظام دولي مختلف على كل الأصعدة.
وتزخر في أيامنا هذه المجتمعات الغربية ودوائرها الإعلامية والسياسية والثقافية بتساؤل مركزي حول كيفية التعامل مع الشعوب العربية والمسلمة، في ظل ما يتردد ويُشاع عن أنها باتت تمثل العقبة الكبرى أمام تطور البشرية نحو الحرية والديمقراطية.
وعلى تعدد الإجابات المقدمة لهذا التساؤل في الغرب، فهي جميعًا تبدو في حقيقتها منطلقة من فرضية مضمَرة، وهي أن الشعوب والأمم جميعًا ذات طباع متشابهة، أو يجب أن تكون كذلك، والنموذج الوحيد الأصح لها والأكثر قدرة على الحياة والاستمرار هو النموذج الغربي نفسه.
والحقيقة أن هناك شكوكًا كبيرة في صحة هذه الفرضية المضمَرة في ذلك التساؤل العام وإجابته الغربية، حيث إن الناس بطبيعتهم مختلفون ومنقسمون إلى شعوب وثقافات وحضارات، كذلك فهُم يمرون عبر تاريخهم بمراحل مختلفة الخواص، قد يختلف في أثنائها سلوكهم وتوجهاتهم، الأمر الذي يترتب عليه تعدد طرق التعامل معهم وفقًا لتلك الانقسامات وهذا التغير في المراحل.
ولا يعني هذا غياب الخواص المشتركة بين الناس أجمعين على اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم وحضاراتهم، ولا اختلاف توجهاتهم وسلوكهم جذريًّا بين مرحلة وأخرى، فهناك دومًا عناصر مشتركة بين أبناء الجنس البشري في كل الأماكن وفي كل الأوقات.. لكن الانطلاق من الفلسفة الغربية في فهم المجتمعات والشعوب وفقا فقط لمبدأَي المنفعة أو اللذة يتصادم في الحقيقة مع العوامل المعنوية والثقافية والدينية ذات الأهمية الكبيرة في تكوين الجنس البشري وفي تحديد توجهات وسلوكيات أبنائه.
ولعل جزءًا مهمًّا من الأزمات الاجتماعية، التي تسود كثيرًا من البلدان الغربية حاليًّا، ينبع من طريقة التعامل مع وبين الناس فيها، والقائمة على تلك الفلسفة المغرقة في تعظيم المكونات المادية والمصلحية للبشر باعتبارها المحور الوحيد الذي تقوم عليه حياتهم والعلاقات فيما بينهم.
وفي هذا السياق، فإن القول بأهمية العوامل المعنوية والثقافية والدينية في تكوين الشعوب والأمم لا يعني تجاهل ما يتداخل في تكوينهم وتوجهاتهم وسلوكياتهم من عوامل مادية ومصلحية.
إن ذلك يعني ضرورة فهم الشعوب والأمم والتعامل معهم وفقًا لمنهج مُركّب مادي -معنوي يعطي أوزانا متفاوتة حسب الموقف والسياق- للمشاعر والتصورات الثقافية والأخلاقية، التي يعتنقها الناس ويعتقدون في صحتها، ومعها المصالح والأهداف المادية، التي يطمحون إلى تحقيقها، دون أن يطغى وزن العوامل المعنوية على العوامل المادية أو العكس.
والأرجح أن جزءًا كبيرًا من أخطاء التعامل مع الشعوب، وفيما بينها، يعود إلى طغيان أحد هذين النوعين من العوامل على الآخر، بما يؤدي إلى شعورهم بالظلم إذا غابت العوامل المادية أو بالإحباط إذا غابت العوامل المعنوية.
في هذا الإطار، فإن جزءًا مهمًّا من أخطاء الغرب في التعامل مع الشعوب العربية والمسلمة يعود إلى تجاهله للأطر الثقافية الخاصة بهم والسياقات التاريخية التي يمرون بها واعتبارهم مجرد “نسخ” معدلة أو مشوهة للشعوب الغربية يجب إعادة تشكيلها.
ولمزيد من التحديد للمقصود بالإطار الثقافي الخاص، الذي يجب أن يتم التعامل ضمنه مع الشعوب العربية والمسلمة، فلا بُدّ أولا من الإشارة إلى ما يسمى “الروح الشرقية” أو التكوين الثقافي العربي-الإسلامي، الذي يهيمن على القيم التي يؤمنون بها والسلوك الذي يقومون به، والذي لا بُدّ من مراعاته عند أي تعامل معهم.