الفساد الذي أخرج العراقيين عن صمتهم
800 ملف من الفساد قيد التحقيق والخسائر قرابة 450 مليار دولار
ولم تكن تظاهرات أكتوبر 2019، الأولى من نوعها ضد الفساد في العراق، فقد شهدت مدينةالبصرة جنوبي البلاد خلال صيف 2018، مظاهرات مشابهة نددت بسوء الخدمات العامة والفساد، وطالبت بفرص عمل وإصلاحات في أجهزة الحكومة.
لكن المظاهرات الحالية، هي الأكثر دموية بشكل واضح، إذ أسفرت عن مقتل أكثر من 100 شخص وإصابة الآلاف بجروح، وفق إحصاءات رسمية، وذلك خلال حركة احتجاجية غير مسبوقة في بغدادومحافظات جنوبية عدة، نددت بالأداء الحكومي، طالبت بمحاكمة الفاسدين ومحاربة البطالة وتقديم الخدمات العامة.
وشهدت التظاهرات التي انطلقت الثلاثاء الماضي أعمال عنف وإطلاق نار وحرق لعدد من مقار الأحزاب السياسية، التي يتهمها المتظاهرون بالوقوف وراء أعمال الفساد في البلاد.
وفي المقابل، اتهمت السلطات العراقية “قناصة مجهولين” بإطلاق النار على قوات الأمن والمدنيين.
والسبت أصدرت الحكومة العراقية سلسلة قرارات وصفتها “بالمهمة”، خلال جلسة استثنائية عقدت برئاسة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ردا على مطالب المشاركين في الاحتجاجات.
وتضمنت القرارات الجديدة 17 فقرة، أبرزها تسهيل الحصول على أراض سكنية، وبناء وحدات جديدة، إضافة إلى منح 175 ألف دينار (نحو 145 دولارا) شهريا للعاطلين عن العمل، لمدة 3 أشهر.
كما تضمنت القرارات إنشاء “مجمعات تسويقية” حديثة بمناطق تجارية في بغداد والمحافظات.
وتبدو حزمة “القرارات التصحيحية”، موجهة بشكل واضح لتحسين حياة المواطنين، وتخفيف آثار الفساد الذي ينهش الجسد العراقي.
فرغم غنى البلد بالثروات، لا يستطيع كثير من العراقيين توفير لقمة العيش، وقد احتل المرتبة الثانية عشر في لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم، حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.
مسيرة فساد “بلعت” مليارات الدولارات، إذ تفيد التقارير أنه، ومنذ عام 2003، خسرت البلاد جراء عمليات الفساد نحو 450 مليار دولار.
أما البطالة فقد بلغت مستويات متفاقمة، وقدرها الجهاز المركزي للإحصاء في بغداد هذا العام بنحو 23 بالمئة، في حين أعلن صندوق النقد الدولي منتصف العام الماضي أن معدل بطالة الشباب قد بلغ أكثر من 40 بالمئة.
وبحسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية فإن الموارد النفطية للعراق تشكل 89 بالمئة من ميزانيته، وتمثل 99 بالمئة من صادراته، لكنها تؤمن 1 بالمئة فقط من الوظائف في العمالة الوطنية.
ورغم أن حجم احتياطيات النفط في العراق يصل إلى نحو 112 مليار برميل، فإن الفقر يطارد نحو ربع العراقيين، إذ تزيد نسبته عن 22 بالمئة، ويصل في بعض محافظات الجنوب إلى أكثر من 31 بالمئة.
وقد خلقت النفقات المتضخمة أكبر عجز في الموازنة، إذ بلغت هذا العام 23 مليار دولار، ويتوقع أن تزيد عن 30 مليار دولار بحلول عام 2020، بحسب اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي.
ويعاني الاقتصاد العراقي مشكلات أخرى كثيرة، كانعدام الصناعة، وانهيار البنية التحتية، وضعف أداء القطاع الزراعي، والتجاري، وتفاقم المشكلات الأمنية وضعف قطاع القانون.
ووفق تقرير مطول لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى نشر قبل أشهر، فقد قدرت إحدى الدراسات العراقية أن الفساد المالي يستنزف نحو 25 بالمئة من المال العام.
وقبل نحو عام، تناولت وسائل الإعلام العراقية حوالي 800 ملف من الفساد، قيد التحقيق.
وتتفق المصادر الدولية على أن سجل الفساد في العراق قد ازداد سوءا في العقود الماضية، إذ صنفت منظمة “الشفافية الدولية” العراق في المرتبة 117 من أصل 133 دولة عام 2003، قبل أن يتقهقر لاحقا إلى المرتبة 169 من بين 180 دولة.
وغالبا ما يشير المعلقون السياسيون العراقيون إلى أن السبب الرئيسي للفساد في البلاد هو “الطائفية” وتوزيع المراكز الرسمية أو الحكومية بين الجماعات السياسية والطوائف بموجب ما يعرف بالمحاصصة.
ويؤكد بعض هؤلاء أن المحاصصة جعلت الفساد “أمرا عاديا” في المؤسسات العراقية، ورسخته في النظام السياسي، حسب تقرير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
ويدعي آخرون أن الأحزاب السياسية في العراق تتلاعب بالنظام التوافقي لتحقيق مصالحها الذاتية.
ويتمتع نظام المحاصصة، وفق تقرير معهد واشنطن، بخصائص سياسية واقتصادية وقانونية تعزز بشكل منهجي الفساد وتقويه.
فمن الناحية السياسية، تسمح المحاصصة بسهولة الوصول إلى الحكومة، إلى جانب تخصيص الوظائف لأشخاص من مناصري الأحزاب السياسية في السلطة.
وبسبب هذا النظام، يعمل أعضاء الحزب في الحكومة لصالح الحزب، بدلا من الحكومة أو الشعب الذي يمثلونه. وبالتالي، تهتم الجماعات السياسية بشكل أكبر بالتحكم بالإدارات والبقاء فيها بدلا من الاهتمام بمتابعة أجندة سياسية معينة.
أما من الناحية الاقتصادية، فتكتسب المجموعات السياسية من خلال المحاصصة سهولة الوصول إلى المال العام واحتكار الأنشطة الاقتصادية في السوق، حسب تقرير المعهد.