المثقفون لقيس سعيد: نحن معك ولسنا منك
حكيم مرزوقي
النخب السياسية والثقافية وكافة أطياف المجتمع المدني في تونس تكاد أو توشك أن تقول لقيس سعيد “نحن معك ولسنا منك”، ذلك أن الرئيس ذهب بعيدا نحو الحسم مع حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي وحلفائها، إلى درجة الإمساك بكل دواليب الحكم، وهو ما قد يحرج المدافعين عنه كما يقول أحد ناشطي المجتمع المدني في تونس.
“ليس هذا ما أردت قوله ولكن لا بأس”، هذا ما قاله المارد الذي أشرف على تدريب هرقل حين قال له “استخدم رأسك” فشق الأخير الصخرة برأسه.
فعل قيس سعيّد ما كان يتمناه كل مثقف أو سياسي ديمقراطي أو حتى مواطن تونسي بسيط في تونس قبل الخامس والعشرين من يوليو الماضي، عبر حل الحكومة وتجميد البرلمان، لكن هول المساس بالدستور في بلد أول دستور عربي وأفريقي (1861) يظل أمرا بالغ الحساسية في تونس التي يتململ الجميع فيها من دستور 2014 الذي شتت الحكم وجعله على مقاس حركة النهضة وحلفائها، كما قال قيس سعيد في خطابه الأخير.
هذا الخطاب -وفق مراقبين دوليين- عمق حالة الانقسام والتباين السياسي الذي تعيشه البلاد منذ الخامس والعشرين من يوليو، إذ توالت ردود الفعل على قرارات الرئيس التونسي التي أعلن عنها مساء الاثنين الماضي، وتقضي بتمديد تجميد أعمال البرلمان المعلق منذ الخامس والعشرين من يوليو إلى غاية إجراء استفتاء حول إصلاحات دستورية الصيف المقبل وتنظيم انتخابات تشريعية نهاية 2022.
كل هذا يضاف إلى كون قيس سعيّد لم يتطرق في خطابه إلى الشق الاقتصادي، خاصة أن تونس تمر بفترة عصيبة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما لاقى انتقادات عديدة إذ لم يقدم الرئيس وحكومته عناوين اقتصادية واضحة للمرحلة المقبلة.
هذه جملة من الأسباب التي تجعل من حروب السياسيين والمثقفين مع النهضة مشتتة، إذ يستند الإسلاميون في تكتيكاتهم مؤخرا إلى وقائع اقتصادية واجتماعية، على عكس التنظيرات الدعوية التي دأبوا عليها قبل تمكنهم من الحكم منذ عشر سنوات ثم أن “الإسلام هو الحل” بات شعارا باهتا ولا يقنع أبسط الناس الذين ملوا أكاذيبهم.
حركة النهضة في تونس أشبه بتفاحة مهترئة وفاسدة، يسدد إليها الجميع سهامهم، ولكنها تقع على رأس سلطة الدولة وهيبتها. هذه هي المقاربة التي ينبغي التفطن إليها في هذه المرحلة الحالكة من تاريخ البلاد التي وضعت قدمها في المسار الديمقراطي، ولا يمكن أن تتراجع عن ذلك أبدا.
قيس سعيد، في نظر المتربصين به، يوشك أن يكون دكتاتورا انقلابيا كامل الأوصاف، لولا بدلته المدنية واحتكامه إلى الدستور وتسامحه مع منتقديه.
يقول قائل: إن الفرصة سانحة للإجهاز على حركة النهضة التي تمثل واحدا من أفتك رؤوس الإخوان المسلمين في المنطقة بعد الهزيمة التي مُني بها نظراؤها في مصر والمغرب وغيرهما، لكنه قد ينسى أن النموذج التونسي أشد دهاء في تلونه مع الشارع الشعبي والسياسي والنقابي، وحتى الثقافي.
هل شاهد أحد منكم إسلاميا عربيا -غير حركة النهضة التونسية- يتناغم مع منع تعدد الزوجات الذي تقره تونس في قانون الأحوال الشخصية، ويقبل بالحانات والملاهي السياحية المنتشرة في البلاد بل ويتساهل في التراخيص التي تعود عليه بالفائدة الضريبية والنفعية؟
هل لمحتم زعيم حركة إسلامية يشتم علنا في المنابر وعلى الملأ من طرف نواب في برلمان يترأسه وهو ذليل ومنكس الرأس؟ هل شاهدتم جماعة إسلامية ينشق ويتمرد عليها منتسبوها أفواجا أفواجا بل ويقدم أحد “مناضليها” على إضرام النار في نفسه وفي مقرها العام كما حصل في تونس؟
ماذا بعد هذا؟ إنها أقصى حالات الإذعان في سبيل التمكّن من الحكم بأي شكل من الأشكال، إذ لم يبق لهذا الجسم السياسي الهجين أي مجال لحفظ ماء الوجه والكرامة بعد هذا الكم الهائل من السخرية والتندر في الشارع التونسي بمختلف أطيافه، ولكن لماذا لا يطاح به، وبالضربة القاضية كما يقال في لغة الملاكمة؟
الحقيقة أن تونس حلبة تتسع لكمّ هائل من الملاكمين، دون حكم حاسم وبلا جمهور موحد. إنه شرط الديمقراطية الناشئة على كل حال.
يستحي الكائن الديمقراطي من أن يجهز على جثة، وحركة النهضة في تونس أمست جثة هامدة بل وقبرا موحشا لا حياة فيه. هذا بالإضافة إلى تباين المصالح وقوة فعل المال السياسي. والأهم من ذلك كله تدخل القوى الخارجية من ذلك النوع الذي لا يحب لك الاستقرار بـ”نهضة” أو من دونها.
كل ذلك يحدث في “تونس العجيبة” التي تئن، تشتكي، ولكنها لا تنكسر بفضل “معجزات” تطل برؤوسها عند كل لحظة لدى مجتمع مدني نزق، متوثب وقلوق يؤيد ويسكت عن رئيس قادم من تدريس مادة الدستور في كلية الحقوق التونسية، يجمد العمل بقسم واسع من الدستور ويمنح نفسه سلطة التشريع عبر مراسيم، بناء على أمر رئاسي. ويعلن عن تشكيل حكومة برئاسة أستاذة جيولوجيا نجلاء بودن، تعمل بصلاحيات محدودة تحت إشراف الرئيس.