المسألة الإسرائيلية
إذا كانت «أوروبا الجديدة» سوف تنبت من الشرق الأوسط، فإنه لا يوجد مفر من التعامل مع «المسألة الإسرائيلية». اليقين الجديد في منطقتنا، أن هناك فرصة تاريخية لنهضة جديدة تماثل تلك التي ظهرت في القارة الأوروبية مع نهاية العصور الوسطي وبدء الاكتشافات الجغرافية والعلمية وذيوع العقل والتنوير بدرجة غير مسبوقة لدى البشرية من قبل.
في الشرق الأوسط وفي العالم العربي تحديداً تجري عمليات إصلاح واسعة النطاق تشمل البشر والحجر غير مسبوقة؛ لأنها شاملة لنظم اقتصادية واجتماعية وساعية للتجديد الديني والحضاري. التفصيل في ذلك جرى في هذا المقام من قبل، والمؤكد أنه سوف يستمر من بعد؛ ولكن ما يهمنا حالياً هو مواجهة عقبات عام مقبل سوف يكون مشبعاً بأثقال وتبعات الحرب الأوكرانية التي من المرجح أنها سوف تتعمَّق عسكرياً، كما سوف تمر بما سماه عالم العلاقات الدولية جوزيف ناي «الشتاء الدبلوماسي»، أي الفشل السياسي في إيقاف الحرب. ولكن ذلك لن يكون وحده العبء الكبير، وإنما وجود الواقع الإقليمي الذي يدور حول المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، حيث تمر كلتاهما بمنعطف حاد مشبع بكل عناصر الانفجار خلال العام الذي سوف تشرق شموسه بعد أيام.
لفترة طويلة كان الصراع العربي – الإسرائيلي جزءاً لا يتجزأ من تأخر المنطقة بكل ما كان فيه من تكلفة وأعباء نفسية وعاطفية. ولفترة أطول كانت «القضية الفلسطينية» هي «المسألة المركزية» على قائمة الأعمال العربية بحكم ما بدا من كونها استثناءً على القضايا العربية من أجل الاستقلال والتي كانت تقع على عاتق الشعب العربي صاحب المصلحة الأولى في ذلك، بينما تكون وظيفة الأشقاء التأييد المادي والمعنوي والدبلوماسي والسياسي. ورغم التفاعل الشديد بين المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، والتفاعل المتبادل بينهما، فإن الاهتمام بالمسألة الإسرائيلية كان نادراً؛ واحتاج العالم العربي إلى عقود كثيرة حتى ظهرت مراكز البحوث العربية المعنية بالشأن الإسرائيلي كما هو الحال مع الشؤون العربية.
المسألة الإسرائيلية جرى اختصارها في العالم العربي على أنها مسألة غربية في الأساس يتحمل ذنوبها ومعاصيها من قاموا باضطهاد اليهود – والمسلمين من قبل – وأن القضية العربية هي إنقاذ الفلسطينيين من براثنها. الآن لم يعد مثل هذا المنطق كافياً، وبعد إنشاء دولة إسرائيل في وسط المنطقة منذ ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن جرت فيها صراعات وحروب، فإن السلام بات هو الآخر حاضراً إلى المنطقة. ست دول عربية أقامت سلاماً كاملاً مع إسرائيل، وعدد آخر أقام علاقات بأشكال متنوعة، بعضها تجاري وبعضها الآخر ملاحي؛ وحتى الفلسطينيون أنفسهم وقّعوا اتفاقاً سياسياّ جرى في أسلو قبل ثلاثة عقود أقيمت بمقتضاه السلطة الوطنية الفلسطينية كأول سلطة يعرفها الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين في التاريخ.
أثناء ذلك حصلت إسرائيل على اعتراف دولي غير مسبوق، ومعه ازدهرت كدولة اقتصادياً وعلمياً، وصنفت بين الدول المتقدمة والأكثر سعادة، وكل ذلك وهي مسلحة حتى الأسنان تقليدياً ونووياً دونما حساب ولا مؤاخذة من عالم جعل من انتشار الأسلحة النووية جريمة عالمية. المدهش، أنه وسط ذلك كله، وحتى وسط الحرب الأوكرانية التي جعلت احتلال أراضي الغير سبّة دولية، فإن قلة في العالم وجهت لوماً لإسرائيل لأنها لا تزال تحتل الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن العربية في سوريا. الأكثر من ذلك أن إسرائيل رغم اتفاقياتها مع السلطة الفلسطينية والاستعداد للتفاوض حول الأوضاع النهائية للأرض وغيرها من القضايا، فإنها وبالقوة مستمرة من خلال الاستيطان في تغيير المناطق التي تحتلها بما فيها القدس. المدهش أيضاً أنه بينما يحدث كل ذلك فإن استجابة إسرائيل ذاتها لكل المتغيرات المنوه عنها اتجهت نحو نوعية خطرة ومنذرة من اليمين أثارت الانزعاج داخل إسرائيل، وحتى في الولايات المتحدة هي الأخرى.
في حديث لشبكة «سي إن إن» صنّف فيلسوف ومؤرخ إسرائيلي في الجامعة العبرية بالقدس تصور الأمر في وحدة سياسية تقع بين نهر الأردن والبحر المتوسط – أي فلسطين التاريخية – يوجد ثلاث طبقات من الناس: اليهود ولديهم كل الحقوق؛ وبعض العرب الذين لديهم بعض الحقوق؛ وعرب آخرون لديهم القليل من الحقوق أو لا حقوق على الإطلاق. ومرة أخرى في مقال أكثر صراحة نشرته «النيويورك تايمز» بعنوان «ماذا بحق العالم يحدث في إسرائيل؟» سوف نجد التصنيف السياسي للقضية يقع في المنطقة الجغرافية الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط ويقدم صورة أكثر تعقيداً من تلك التي قدمها سابقاً فهناك العلاقات بين «اليهود واليهود» و«اليهود العرب والإسرائيليين» و«اليهود والفلسطينيين» و«الفلسطينيين والفلسطينيين». ليس من الصعب هنا العودة إلى المقال لمزيد من التفاصيل، ولكن المهم فيه أننا إزاء تسجيل أن حل الدولتين قد بات «شاحباً»، وفي مقالات أخرى سوف نجد أنه انتهى كلية، وبينما يتجه اليهود إلى أكثر أبعاد اليمين بعداً، فإن علاقاتهم بالفلسطينيين الحاملين للجنسية الإسرائيلية فيها الكثير من التفاعل الذي جعل سمير حاج يحيى الفلسطيني رئيساً لبنك «ليومي» أكبر بنوك إسرائيل من حيث القيمة السوقية. وبينما الفلسطينيون يشكلون 21 في المائة من سكان إسرائيل الجغرافية – قبل عام 1967 – فإنهم يمثلون 20 في المائة من الأطباء، و25 في المائة من العاملين بالتمريض و50 في المائة من الصيادلة، و20 في المائة من العاملين في «التخنيون» أبرز المؤسسات العلمية الإسرائيلية.
المعضلة الأساسية، كما وردت في المقال السابق الذكر، هي تخوفه الكبير إزاء انزواء حل الدولتين، بينما الواقع داخل إسرائيل ممتد إلى داخل المناطق المحتلة، بحيث أولاً يتناصف الفلسطينيون والإسرائيليون الكتلة السكانية الواقعة بين النهر والبحر؛ وثانياً في هذه المساحة توجد عملة واحدة؛ وثالثاً نوع من المنطقة الجمركية الواحدة؛ ورابعاً نظام مستقر للعمل داخل إسرائيل وخارجها؛ وخامساً أكبر عملية للظلم التاريخي عرفها التاريخ. وسادساً على ضوء التطورات الجارية داخل البنيان السياسي الإسرائيلي توجد أكبر قنبلة تستعد للانفجار وتقف في وجه ليس السلام وحده، وإنما عملية صعود أوروبا الجديدة من رحم الإقليم.
وبينما تحشي إسرائيل مدافعها السياسية بالبارود القائم على رفض عمليات التفاعل المشار إليها من خلال «نكبة أخرى» تفرغ الدولة من النهر إلى البحر من الفلسطينيين كما حدث في عام 1948. التصريح بالعمل من أجل نكبة جديدة صريح من أعضاء في الائتلاف الجديد الذين تتملكهم عنصرية طاغية ورفض للتعايش مع الفلسطينيين، والرفض أكثر لوجود مجال سياسي واحد إسرائيلي – فلسطيني – دولة واحدة في الواقع – قائم على المساواة في الحقوق والواجبات. على الجانب الآخر الفلسطيني، فإن استطلاعات رأس المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات المرموق تشير إلى أن أغلبية الفلسطينيين يتجهون الآن نحو تأييد العنف، والعودة إلى الصراع المسلح.
«حماس» التي قسمت الشعب لفلسطيني تجد في ذلك فرصتها، وفرصة «الجهاد الإسلامي» التابعة لإيران؛ والخلطة الكلية لكل ذلك مضاف لها ما يحدث في إسرائيل، وما يدفع إليه نتنياهو مهدد بانفجار كبير يقع وسط بيئة عالمية منفجرة. الأمر هكذا يحتاج إلى الكثير من تفكير قادة الإصلاح والسلام في منطقة الشرق الأوسط التي تنتظر الخلاص.