انتخابات تونس: النظر إلى المستقبل أولى من الاستغراق في الماضي
انطلقت الحملة الانتخابية الرئاسية في تونس. حان الوقت للحديث عن وعود السنوات الخمس القادمة وليس أزمات السنوات الخمس الماضية، أو ما قبلها. ماذا يفيد الناس من العودة إلى الماضي، والبحث عن الأخطاء وتسجيل النقاط على الرئيس قيس سعيد أو بعض وزرائه أو على من قبله من أحزاب وحكومات، هل سيحمل ذلك حلولا للحاضر، وهل يحل أزمة الأسعار أو ندرة المواد أو مشكلة البطالة؟
ينظر الناس إلى النتائج، ويريدون تحسين واقعهم، ومن يحقق ذلك فهو من يحظى بثقتهم في صناديق الاقتراع بقطع النظر عن جهته أو حزبه أو من أيّ دولة عميقة هو، دولة ما قبل 2001، أو منظومة النهضة، أو ما بعد يوليو 2021. الثقة الشعبية تُسند لمن يحقق النتائج وليس من يطلق الوعود الكثيرة ثم ينتهي إلى نتائج صفرية، ولا إلى من يتقن الكلام والتصريحات ويخوض في قضايا كثيرة شرقا وغربا.
ليس صحيحا أن الناس يتأثرون بشعارات الأشخاص أو بوعود الأحزاب أو أسمائها إسلامية أو يسارية أو قومية أو ديمقراطية، فتلك مقاييس ذهبت مع الماضي، خاصة بعد تجربة حكم الإسلاميين من 2012 إلى 2013 ثم شراكاتهم مع حكومات الليبراليين ووسط اليسار، والتي أظهرت أن الشعار لا يساوي أكثر من ثمن اليافطة التي كتب عليها.
تصوت الجماهير، وخاصة من الفئات الفقيرة أو محدودة الدخل، التي تكابد لتعيش، لمن وقف إلى جانبها، وقدم لها خدمات ولو محدودة وساعدها على مغالبة الحياة الصعبة.
وهناك مؤشرات واضحة على أن الناس لا يهتمون لأصحاب الشعارات سواء أكانوا في السلطة أم المعارضة. بعد 25 يوليو 2021، تظاهر الإسلاميون بوجه مكشوف أو في تحالف مع وسط اليسار، وتظاهرت مجموعات أخرى وجمعيات وأحزاب صغيرة ضد قيس سعيد رافعة شعارات مغرية مثل الديمقراطية وحرية الإعلام والحريات الخاصة، لكن الناس لم يشاركوا في المظاهرات ولم ينضموا للاعتصامات لمعرفتهم بأن هذه ليست معركتهم، وأنها معركة سياسية، ويمكن أن تعيد البلاد إلى مرحلة الفوضى والعراك في البرلمان والإعلام.
دعا الرئيس سعيد إلى انتخابات متعددة، مثل التصويت لفائدة دستور 2022، ثم انتخابات برلمانية (مجالسية)، ثم المحليات، وكان التجاوب محدودا، وكانت النسب في حدود 11 أو 12 في المئة. والسبب أن الناس لم يشعروا أنها تهمهم، أو أنها يمكن أن تجلب لهم مكاسب، وأنها لا تتجاوز صراع المواقع واستبدال فئة بأخرى وساعدهم في ذلك خطاب الهجوم الذي لا يتوقف على الماضي، الذي كان معبّرا عن أنه امتداد لذات الماضي، وأن العقلية السياسية هي ذاتها وإن اختلفت الوجوه.
الآن، كيف يمكن أن يستفيد المرشحون الثلاثة للانتخابات الرئاسية من هذه المعادلة، هل سيكتفون بلعن الظلام أم إيقاد الشمعة. إلى حد الآن تبدو الأمور غير واضحة مع ميل لاستدعاء الماضي إما لإدانته أو التبرؤ منه، وإن كان البعض يريد أن يغازل جمهور الأحزاب التي شاركت في حكومات سابقة وتسببت في أزمة اقتصادية واجتماعية مفتوحة، وساهمت في المناخ الذي شرّع لانتشار الفساد.
الجميع تحكمه معادلة تبرئة النفس واتهام الآخر، بمعنى أننا سنلف وندور خلال خمس سنوات من الحكم حول قضايا التفتيش في دفاتر الماضي. مع أن أيّ سلطة يمكن أن تفصل بين مسار التفتيش وتوزع اهتمامها بينه وبين مقاربة المستقبل. يمكن للقضاء أن يحسم الملفات القديمة التي تتعلق بالفساد أو المس من مصالح الدولة دون ضجيج. لن يقوم الرئيس الجديد مكان القضاء ولا مكان السلطات الأمنية والقضائية التي يفترض أن عملها هو البحث والتقصي ثم إصدار الأحكام، وألا تتركها مثار للاستثمار السياسي.
مثلما استفاد التونسيون من القطيعة مع الأحزاب التي استنزفت طاقة البلاد على مدى عشرية كاملة وهم يستفيدون من عدم التجاوب مع الروح المطلبية للنقابات من دون تحمل مسؤولية الإنتاجية، فإن طي صفحة اللوم والتأنيب والاتهامات ضروري للمسير قدما.
هناك كلام عام في بعض تصريحات المرشحين وبياناتهم بشأن المستقبل. من ذلك أن زهير المغزاوي أمين عام حركة الشعب، قال إنه سيعمل من أجل “مرفق عمومي عصري يواكب حاجيات المجتمع في تعليم جيد وصحة للجميع وتنمية مستدامة وبيئة سليمة وسكن لائق وخدمات متاحة وإدارة رقمية وذكية وبحث علمي مبتكر وأمن جمهوري وقضاء مستقل وجيش قوي يساهم في التنمية”، ووعد بـ”مطار ضخم في حدود 2040”.
ليس مهما بالنسبة إلى الناس تحديد المقاربة الاجتماعية التي تحمّل الدولة مسؤولية كل شيء من توظيف للعاطلين وتطوير الخدمات الصحية والبنية التحتية وصولا إلى التدخل لتوفير الخبز والدقيق والكهرباء والغاز وتوزيع المساعدات المالية والعينية على ضعاف الحال.. هذه أفكار قديمة، كل الذين جاؤوا بعد الثورة قالوا نفس الكلام وأغرقوا الدولة بالوظائف الجديدة الهادفة إلى تحسين الصورة، كما وزعوا المساعدات يمنية ويسرة بحق وبغير وجه حق.
الرئيس الجديد يحتاج إلى مقاربة تقوم على اعتماد سياسات تجلب عائدات مالية للدولة، وليس إنفاق ما لديها أو إغراقها في القروض تنفيذا لأفكار أيديولوجية قديمة جُربت في أكثر من مكان وتُركت. فلْيذهب المغزاوي إلى الناس ولْيسألْهم عن الجملة الطويلة التي عرضها، هل سيفهمون منها شيئا. بالتأكيد لا. تلك جملة للسياسيين، المناصرين والمناوئين.
يريد الناس كيف يفكر المرشح للرئاسة في تطوير حياتهم المباشرة، كيف سيوفر خضرا وغلالا بأسعار معقولة وخلال العام. بمعنى آخر، كيف سيوفر القمح اللين والصلب ليحل مسألة الانقطاعات في التوزيع والتأثر بأزمة أوكرانيا ومعضلة العملة الصعبة، ما هي رؤيته لتطوير الزراعات، وكيف يرى الحلول لمواجهة تأثيرات الجفاف على الزراعة في بلد يسمى “مطمور روما”.
بالتأكيد، فإن المرشح ليس مطالبا بأن يفتي في كل شيء. المفروض لديه مستشارون وخبراء من حركته أو ممن يتعاقد معهم لإعداد برامج تفصيلية يعرضها على الناس فيها حلول واقعية لتطوير مستوى العيش من دون الاتكاء على دور الدولة. الدولة يمكن أن تساعد وتوجه وتعطي تسهيلات، لكن تطوير الزراعات هو مسؤولية المزارعين وهياكلهم والمستثمرين في الميدان. انسوا الدولة وخففوا عنها وحافظوا لها فقط على دور التعديل والمراقبة.
مشكلة الماء هي أيضا تحتاج إلى مقاربة من أهل الاختصاص الذين يجب أن يؤخذ بأفكارهم بدلا من ترديد شعارات عامة وتحميل من حكموا سابقا مسؤولية الفشل. أيّ مرشح جديد يأتي لإخراج البلاد من الأزمة، فعليه أن يعرض أفكاره بدلا من رمي الكرة على الآخرين أو على الإدارة. كيف يمكن إدارة ملف السدود، أيّ خطط للتعامل مع هو قائم، وهل هناك خطة لبناء سدود جديدة وفي أيّ أماكن؟ هل سيقبل الرئيس الجديد بفوضى استخراج الماء وحفر الآبار مجاراة لرغبة الناس، أم سيضع ضوابط لذلك، كيف يخطط للتعامل مع المياه الجوفية في الجنوب والمائدة الكبرى المشتركة مع الجزائر وليبيا. الجزائر بدأت مشاريع زراعية كبرى في الصحراء والرهان على المائدة المشتركة، كيف سيضمن حقوق تونس في مياهها، وكيف سيتحاور مع الجزائر على موضوع المياه بما في ذلك السدود التي تبنى على الأودية المشتركة على طول الحدود.
من يقدر على فتح ملف إصلاح التعليم، ومن هي الجهات التي ستشارك فيه بعيدا عن شعارات الإصلاح واسترضاء النقابات والأحزاب. ملفات كثيرة تحتاج من المرشحين أن ينشروا مقارباتهم حولها في كتيبات صغيرة، ولو كموجهات عامة، ويوزّعوها على وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل ليرى الناس أن ثمة برامج، وأن المرشح جدير بالترشح أولا قبل جدارته بالفوز وملء كرسي الرئاسة. ثمة الكثير مما يمكن تحقيقه خلال العهدة الرئاسية في بلد بعدد سكان قليل وموقع جغرافي متميز وشعب متعلم. فقد يحتاج الأمر إلى ترك الماضي والتفكير في المستقبل.