بريطانيا.. القيادة النسائية الثالثة
بهاء العوام
حرصت رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة، ليز تراس، خلال حملتها الانتخابية على خلق شبه بينها وبين مارجريت تاتشر، التي كانت أول امرأة تقود المملكة المتحدة.
تولَّت “تاتشر” الحكومة بين 1979 و1990. وقد أرادت “تراس” من خلال التشبُّه بها أن تبشر بنفسها كامرأة حديدية ثانية قادرة على مواجهة الأزمات وإدارة كل الملفات الكبرى التي تنتظرها.
للبريطانيين تجربتان سابقتان مع القيادة النسائية لزعامة المحافظين ورئاسة الحكومة.. الأولى مع “تاتشر”، التي فرضت نفسها بقوة في ذاكرتهم وتاريخهم.. والثانية مع تيريزا ماي، التي أدارت البلاد بين 2016 و2019، ولكنها لم تترك انطباعا إيجابيا في القرارات والقضايا التي تعاملت معها.. فأصبحت رمزا لـ”الفشل السياسي”.
رغبة “تراس” في مكانة تشبه تلك التي حظيت بها “تاتشر” تصطدم بتحديات عدة، أولها الفارق بين السيدتين في “الدهاء السياسي”. وثانيها الاختلاف في الظروف الحزبية والداخلية والدولية بين المرحلتين.. فالمرأة الحديدية كانت محل إجماع بين المحافظين، وقد أبحرت بهم في عباب تحولات داخلية كبرى لا تهدد وحدة الدولة. أما في الخارج فكانت إلى جانب الغرب تخوض حربا باردة مع الاتحاد السوفييتي الضعيف والمتداعي.
المحافظون اليوم ينقسمون بوضوح حول تأييد “تراس”.. ونواب الحزب ينظرون إليها بتقييم يختلف كثيرا عن رؤية الأعضاء.
وخشية “تراس” من هذا الانقسام جعلتها تضع المُوالين لها على رأس الوزارات والمناصب السيادية الهامة.. وهذا الإجراء بحد ذاته قد يزيد الطين بِلّة، ويعزز من نقمة عشرات النواب الذين كانوا يفضّلون وصول وزير الخزانة الأسبق، ريشي سوناك، إلى رأس الحزب وقيادة الدولة لأسباب عديدة ليست سطحية.
ورثت “تراس” أكثرية برلمانية مطلقة عن سلفها، بوريس جونسون، ولكن هذه الأكثرية يمكن أن تحميها من المعارضة فقط، وليس من غير المؤيدين لها في صفوف الحزب الحاكم.
لكنها مهما تلقت من صفعات، لن تجرؤ على المضي نحو انتخابات عامة مبكرة للتخلص من النواب المحافظين المعارضين لها.. فهي لن تكرر الخطأ الذي ارتكبته تيريزا ماي عام 2017، عندما أجرت انتخابات مبكرة أوصلتها إلى حكومة ائتلافية.
التصالح مع الأكثرية النيابية كما هي يعني مواجهة “تراس” أزمات الداخل والخارج، وهي تنظر خلفها وتتلفت يَمنةً ويَسرةً خشية أولئك النواب الذين يرون فيها استمرارا لنهج جونسون.. وبالتالي يعتبرونها خطرا يهدد مستقبل الحزب وفرصَ فوزه في الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في شهر مايو/أيار عام 2024.
والخشية لا تأتي فقط من النواب المعارضين في مجلس العموم، وإنما أيضا من الأعضاء الذين لم يؤمنوا بـ”تراس” زعيمة للحزب ورئيسة للوزراء.. لم يمنحوها أصواتهم في الانتخابات الأخيرة، ولا يجدون فيها بديلا حقيقيا لجونسون ولا نسخة من “تاتشر”.. خاصة أن الأزمات التي تواجه الدولة الآن شديدة التعقيد، ولا يكفي لحلها أن تكون رئيسة الحكومة “حرباء” في مواقفها السياسية أو صاحبة بشرة بيضاء.
ومع هشاشة التأييد في البرلمان والقاعدة الشعبية للحزب.. تجد “تراس” نفسها في تحد مع ذاتها وخصومها في الداخل والخارج.
والسبيل لكسب هذه المعركة هو اتخاذ قرار جريء بالتخلّي عن سياسة الجبهات المتعددة، التي كان يتبعها جونسون.. وترتيب الأولويات بإنجاز الملفات ذات الأهمية القصوى.. فتبدأ بمعالجة المشكلات الناجمة عن التضخم وإمدادات الطاقة، ثم تتصالح مع الاتحاد الأوروبي وفق صيغة أكثر انفتاحًا على علاقات جيدة معه لا تثير حفيظة المؤيدين لـ”بريكست” من المحافظين.
وفق الإحصائيات الرسمية لاستفتاء الخروج عام 2016، فإن 76% من حزب المحافظين صوّتوا لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي.. ولكن الإصغاء لرغبة هؤلاء وتجاهل ما قد تجره الخصومة مع بروكسل في السياسة والاقتصاد لن يكون قرارا صائبا.
وما يدلل على ذلك، هو الاتصال الذي أجراه الرئيس الأمريكي جو بايدن مع ليز تراس فور تسلمها المنصب، حيث هنأها وحثها على حل مشكلة بروتوكول أيرلندا الشمالية.
والاستقرار في علاقة إيجابية مع الاتحاد الأوروبي يساعد “تراس” على إضعاف مساعي الحزب القومي الاسكتلندي نحو تنظيم استفتاء جديد على الوحدة بين إدنبرة ولندن.. كما يشجع دولا عديدة -من بينها الولايات المتحدة- على توقيع اتفاق تجارة حرة مع المملكة المتحدة.
ومع كل اتفاقية توقّع في هذا الشأن يتحسن الواقع الاقتصادي للدولة، وتستطيع “تراس” أن تقترب أكثر من نموذج “تاتشر” التي تنجز المهام الصعبة وتتجاوز الأزمات.
في تحسن الوضع الاقتصادي تكمن مصلحة أخرى لـ”تراس” تتمثل في الاستمرار بقيادة الجبهة الأوروبية في الحرب ضد روسيا. فارتفاع كلفة الحياة على البريطانيين جعلهم يتململون من دعم “المحافظين” اللا محدود لأوكرانيا.. فتعالت الأصوات المطالبة للحكومة الجديدة بالموازنة بين هذا الدعم ومساعدة سكان المملكة المتحدة في أزمة معيشتهم.. حتى إن نسبة من المشاركين في برنامج استقبال اللاجئين الأوكرانيين في بريطانيا قرروا الانسحاب، لأن عبء الاستضافة فاق قدرتهم على التحمل حتى مع المبلغ الذي تقدمه الحكومة لهم.
هي سلسلة من الأزمات الاقتصادية والسياسية المترابطة، التي تواجه “تراس”، وتقف أمام تحقيق أحلامها في تسجيل اسمها إلى جانب “تاتشر” في القيادات النسائية التي صنعت فارقا في تاريخ المملكة المتحدة.. ولكن فشلها في ذلك لن يلغي حقيقة نجاح حزب المحافظين في إيصال ثلاث سيدات إلى الحكم خلال أقل من خمسين عاما.. في حين لم يعرف حزب العمال اليساري قيادة نسائية واحدة طوال تاريخه، الذي يمتد لأكثر من مئة عام.
قد تعرف البلاد “عهدا تاتشريا” جديدا مع “تراس”، وقد تنتهي بسببها حقبة من حكم “المحافظين” استمرت منذ 2010.. لا يزال الوقت مبكرا على الحكم، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن الرهان على تأييد نحو 1% من البريطانيين لتحفر اسمك في تاريخ دولة عظمى مثل المملكة المتحدة.. لن يستغرق الأمر وقتا حتى تبدأ المقارنة بين “تراس” و”تاتشر” و”ماي”، وللقصة بقية في الصنائع البيضاء والسوداء للقيادة النسائية الثالثة في تاريخ هذه البلاد.