تنظيم الدولة الإسلامية باقٍ… ويتمدّد إلى موسكو
سوسن جميل حسن
كل اعتداء على المدنيين، تحت أي ذريعة وفي أي مكان وزمان، مرفوضٌ ومدان، هذا ما يمليه القانون الدولي وقبله الضمير الإنساني، بل من المفروض من الضمير الإنساني أن يدين القتل بكل أشكاله، وأن يعمل من أجل حشد التعاطف والعمل على عودة المضلّل بهم إلى جادّة الحق والصواب.
جريمة مروّعة وقعت في حفل موسيقي ترفيهي في إحدى ضواحي موسكو يوم الجمعة، راح ضحيتها حتى كتابة هذه المقالة 92 ضحية، عدا الجرحى بالعشرات. … ومن الفاعل؟ إنه بيدق رقعة الشطرنج، الجاهز دوماً لتحميله الفعل، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فرع إقليم خراسان، الذي يعد الأكثر تطرّفاً وعنفاً، من بين جميع التنظيمات والفصائل الإسلامية في أفغانستان. ويجنّد التنظيم المتطوعين، من أفغانستان وباكستان على حد سواء، خصوصاً المنشقّين عن حركة طالبان في أفغانستان، ويتهم التنظيم الحركة بأنها لا تلتزم بتطبيق الشرع الإسلامي كما يجب، أي إنه يقف إلى يمين الحركة التي تصنّف من الحركات الأكثر تشدّداً في العالم، ويعدّ تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان جزءاً من تنظيم أكبر، ويعمل على المستوى الدولي، ويمكنه أن يشنّ هجماتٍ في أي موقع تصل إليه أياديهم.
يرقى تنظيم الدولة إلى مرتبة من الشرور يمكن وصفه معها بأنه “لعنة” حلّت بالبشرية، وصارت كابوساً حقيقياً من دون أن يعرف العالم عنه أشياء كثيرة، بل إن العالم، بعيداً عن الأنظمة، يشعر بأنه واقع افتراضي، إنما موغل في تأثيره وفاعليته المدمّرة، فمن أين لهذا التنظيم أن يهدّد مصالح دول تمتلك من القوة والتسليح والاستخبارات والهيمنة ما يجعلها منيعة ضد كل أشكال الخطر والتهديد؟ لا أخصّص دولة معينة هنا، إنما كل العالم وقع تحت خطر هجمات “داعش” منذ إعلانه، في وقت لا يمكن فيه معرفة الحقيقة الفعلية، ولا من وراء التنظيم.
سورية، العراق، مصر، ليبيا، اليمن، دول إفريقية عدة، وهجمات عديدة في دول أوروبية، والآن روسيا. هل انتهى التنظيم منذ أن أعلن في عام 2017 عن تراجعه بنسبة تفوق ال90% في سورية والعراق، ثم السيطرة في 2019 على قرية الباغوز، آخر معاقله في سورية، بقيادة التحالف والتعاون مع المسلحين الكرد؟
لا يزال التنظيم يقوم بعمليات متفرّقة بين حين وآخر في العراق وسورية ويشرف على شبكة من الفروع المرتبطة به في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، وهو دائم الحضور في أماكن الصراعات في العالم، وكل طرف من طرفي صراع، أول ما يفعل بعد استهدافه بهجمة من هجمات التنظيم أن يوجّه الاتهام إلى الطرف الآخر، وكأن هذا التنظيم “بيضة” القبان في كل الصفقات والنزاعات، بل هو الفتيل الجاهز لأن يولع النيران كلما خبت، ودائماً تحت ذريعة الدفاع عن الأمة الإسلامية وإقامة الشرع، فلا يجلب غير الرفض وتشويه قضايا الشعوب المسلمة أو الشعوب الفقيرة المغلوبة على أمرها، وتأليب الرأي العام ضدّها واتهامها بالإرهاب بدلاً من دعم قضيتها.
وأعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجوم في موسكو بحسب ما نقلته وكالة رويترز. أما المقاتلون فقد “انسحبوا إلى قواعدهم بسلام”، بحسب البيان الذي أعلن فيه التنظيم تبنّيه العملية، لكن التحقيقات جارية ومن التعقّل انتظار ما يمكن أن ينجم عنها، أو ما يلي هذه العملية الوحشية. استنكر العالم الجريمة المروّعة، ودانتها أغلبية الدول والهيئات والمنظمّات الأممية، وقال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، إنه “ليس هناك مؤشّر حتى الآن إلى أن أوكرانيا، أو أوكرانيين ضالعون في إطلاق النار”. وكانت السفارة الأميركية في موسكو قد وجهت قبل أسبوعين تحذيراً إلى مواطنيها بتجنّب التجمّعات الكبيرة، قائلة إنها ترصد تقارير تفيد بأن “متطرّفين لديهم خطط وشيكة لاستهداف التجمّعات الكبيرة في موسكو، ومنها الحفلات الموسيقية”. وأعادت السفارة مساء الجمعة حثّ المواطنين الأميركيين على تجنّب المنطقة المجاورة للهجوم، فلماذا لم تنبه الحكومة الأميركية الحكومة الروسية ولم تمدها بأي معلومات استخباراتية مما لديها؟
أما الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي، دميتري مدفيديف، فقال إن بلاده “ستقضي” على القادة الأوكرانيين، إذا تبيّن أنهم مسؤولون عن الهجوم الدامي على قاعة للحفلات الموسيقية في ضواحي موسكو. وأضاف عبر تلغرام “إذا ثبت أنهم إرهابيون تابعون لنظام كييف… فيجب العثور عليهم جميعاً والقضاء عليهم بلا رحمة باعتبارهم إرهابيين، بما في ذلك قادة الدولة التي ارتكبت هذا العمل الفظيع”.
عملية من هذا النوع تعيد العالم إلى حالة الترقب والخوف من تصعيد أكبر، في وقت لم تعد فيه البشرية قادرة على تحمل مزيد من الانهيارات، فالحرب في أوكرانيا ليست محصورة في بقعة جغرافية محدودة، ولا ترمي إلى تحقيق أهداف محلية، أو إقليمية، إنها تفتح جبهات عديدة على مستوى العالم، تحصُد نتائجها في الدرجة الأولى أوروبا، وتنعكس سلباً على الدول الفقيرة.
ألا يكفي منطقة الشرق الأوسط ما حلّ بها، وما زال، منذ احتلال العراق 2003، وقبلها منذ إعلان قيام دولة إسرائيل؟ ألا تكفي الحرب الوحشية على قطاع غزّة، وما يمارس بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومحاولات إسرائيل زيادة على ذلك محو الوجود الفلسطيني فوق أرضه، ومنع أي حلمٍ بإقامة دولتهم؟ وهل يمكن عزل العملية الإرهابية في موسكو عما يجري في غزة أيضاً؟ إذا ما ربطنا موقف إسرائيل من أوكرانيا في الحرب الدائرة فيها بينها وبين روسيا، ودعم إسرائيل لها، من دون نسيان الفيتو الروسي فيما يعرض من مشاريع قرارات في مجلس الأمن من أجل الحرب في غزّة. هذه كلها أسئلة ترد إلى البال، ولا تعني الدفاع عن روسيا بالمطلق، إنما تسليط الضوء على سياسة العالم الملوّثة بدماء الشعوب.
قضت يد الإرهاب في ضاحية موسكو على 92 ضحية، وأصابت عشرات أيضاً، لكن إسرائيل في حربها الوحشية على غزّة تحصد من أرواح المدنيين بالأسلحة الحربية ضعف هذا العدد يوميًا على الأقل منذ ما يقارب الأشهر الستة، عدا القتل المخاتل بالتجويع وتدمير المستشفيات ومنع أبسط أدوات الحياة والرعاية عن الشعب في غزّة، ومع هذا، وعلى أعين العالم مجتمعاً، ما زالت العبارات الماكرة تتردّد في الإعلام بأن “جوعاً وشيكاً” و”ما يرقى إلى جريمة حرب” وغيرها من عباراتٍ توارب المعاني فيها وتصدرها إلى الرأي العام، فهل المجاعة وشيكة أم إنها واقعة بالفعل؟ وهل ما ترتكب إسرائيل يرقى إلى جرائم حرب أو إبادة أم هو حقيقة إبادة؟ وهل هو دفاعٌ عن النفس كما يردّد كل مسؤولي الدول الداعمة وقادتها، أم هو إرهاب حقيقي تمارسه دولة وليس تنظيماً؟ ما حصل في 7 أكتوبر حدث في الماضي، بينما القتل الجماعي في قطاع غزّة ما زال يحدُث بوحشية أكبر، يُقتل الفلسطينيون في غزّة بالسلاح الأميركي وأسلحة دول عديدةٍ داعمة لإسرائيل، فهل يمكن تخيّل الفظائع التي يمكن أن ترتكب زيادة على هذا القتل الوحشي، لو أن “داعش” استطاع التسلّل إلى غزّة؟ وهل ستوفر إسرائيل على سبيل الافتراض جماعة من هذا النوع في برهانها للعالم بأن الشعب في غزة و”داعش” من الفصيلة نفسها، فيكون بيدها مبرّرات أقوى من أجل تصفية القضية الفلسطينية؟
ويلٌ لكل شعبٍ صاحب قضية عادلة يفرض “داعش” داعماً لها، أو يُستخدم في تشويهها، حتى لو كره، ويمارس وحشيته بحجة نصرة هذا الشعب، إنه الخلطة السحرية لإفساد أي مشروع إنساني أو حضاري، والقضاء على كل إمكانية للدخول في حالة سلام واستقرار في العالم. “داعش” الذي أطلق قبل اليوم شعار “باقية وتتمدد” عن دولته الإسلامية، دولة الخلافة، لم يمت، هو كالأفعى لا تموت إلا بقطع رأسها، فعلى الرغم من تصفية كثيرين من قادته، وأولهم الخليفة الأول أبو بكر البغدادي، ما زالت باقية في أوكارها، تطلّ برأسها كل حين، من دون أن يعرف العالم من هو الحاوي الذي يربيها، ويلصق بها كل قذارات السياسة ووحشية الحروب في لعبة كسر العظم التي تكسر الشعوب وتقتل القضايا.