حرب الطرشان
سربت مصادر فرنسية استياءها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لأنه لا يسمع ولا يريد أن يسمع أي طرح لوقف القتال على غزة، وذلك بموازاة تفعيل الاتصالات لهذه الغاية، وتكثيف الزيارات إلى تل أبيب.
وقالت أخرى أميركية أنها نجحت حتى اليوم بتأجيل فتح جبهة الجنوب اللبناني بين “حزب الله” وإسرائيل، لكنها لا تستطيع منعها، أيضا لأن نتنياهو لا يسمع. وهو أصدر بياناً أشار فيه إلى أن القتال مستمر في قطاع غزة وأن اقتراح “حركة حماس” “حول التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى مرفوض بشكل قاطع، والضغط العسكري شرط ضروري لإكمالها”.
وهذا ما يفعله، ليس فقط بإبادته الشعب الفلسطيني في غزة، وإنما أيضا في لبنان وسوريا وأينما كان إذا لزم الأمر، فاتحا الجبهات المؤدية إلى إيران، وباغتيالات نوعية موجعة تكشف مدى قدرة أجهزته على اختراق بيئة الممانعة في عقر ديارها.
وهو ليس الوحيد الذي لا يسمع، إيران أيضا لا تريد أن تسمع، ولا ترد على الاستفزازات بمواجهة مباشرة مع “عدوها الأول” الذي لطالما تباهت بأنها “قادرة على إزالته من الوجود بدقائق”.. وأيضا هي تحول دون إقدام “حزب الله” على توسيع الحرب في جبهة الجنوب.
لكن عدم انخراطها في حرب مباشرة مع إسرائيل لا يلغي مشاريعها الأخرى، التي تريد من خلالها تقديم استعراض لقوتها، ليس على إسرائيل، ولكن على الدول التي تتحكم فيها وتصادر سيادتها عبر ميليشياتها، وذلك عبر صواريخ بعيدة المدى من قطعت نحو 1200 كيلومتر لتصيب مقرات “داعش” في ريف حلب، على الرغم من وجودها العسكري عبر ميليشياتها قرب الموقع المستهدف، وكان يمكنها قصفه بأسلحة أقل تكلفة وأكثر دقة. هذا عدا هجماتها على أربيل وباكستان التي ارتدت عليها، وعدا تحريكها الحوثيين ليهددوا الملاحة الدولية عبر باب المندب والبحر الأحمر.
وكأنها “حرب طرشان”، إذا ما سلمنا جدلا أن كل من الطرفين المتواجهين يغني على ليلاه، وإن بالواسطة، إيران عبر “حركة حماس” و”حزب الله” المرغمتين على الصمود ومواصلة “نصف حرب” وبدفع المزيد من الأثمان الدموية، من دون مقومات فعلية للقتال، والاكتفاء بالرهان على تعب الجنود الإسرائيليين وإحباطهم، وانتظار انقلاب المعارضة الإسرائيلية ومعها الشعب على نتنياهو، والتباهي بتدني مستوى شعبيته لتصل نسبة الرافضين إدائه السياسي والعسكري إلى 64% وفق أحدث استطلاعات الرأي، وبتفاقم الخلاف بينه وبين الرئيس الأميركي جو بايدن، لتعلن الممانعة انتصارها.
في المقابل، ينهال نتنياهو بالتصريحات والتهديدات، معلنا جهوزيته لتوسيع العمليات العسكرية على جبهته الشمالية. كأنه يقول “علي وعلى أعدائي”، ويكرر بأن اسرائيل اتخذت قرار الحرب ولن تتراجع عنه، ويترك للجهود الدولية مهمة أيصال رسائله إلى “حزب الله” ومن خلفه إيران، واستمرار البحث عن كيفية تجنب التصعيد العسكري في جنوب لبنان.
أو كأنها حرب تتقاطع فيها مصالح الطرفين المتواجهين بالمباشر وبالواسطة، لإلحاق الهزيمة بطرفين متساندين لأهداف مناقضة تماما، هما الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. فهاتين القوتين الدولية والإقليمية تسعيان حتى قبل اندلاع حرب غزة بعملية “طوفان الأقصى” عبر مفاوضات جدية لحل الدولتين وتحقيق العدالة للفلسطينيين مقابل ابداء المملكة استعدادها للتطبيع مع إسرائيل. وحتى بعد اندلاع الحرب لا تزال المساعي لتحقيق هذا الهدف قائمة، وهي تسببت بخلافات بين الإدارة الأميركية ونتنياهو الرافض فكرة حل الدولتين.
وبالطبع إيران بدورها ترفض هذه الفكرة على اعتبار أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعارك”، وإلا فإن استخدامها القضية الفلسطينية للسيطرة على هلالها الشيعي وصولا إلى البحر المتوسط لن يعود نافعا وفعالا، مما قد يؤدي إلى إضعاف سيطرتها على هذا الهلال.
لذا هي تريد المزيد من المآسي في قطاع غزة، ومراكمة القهر المؤدي إلى التطرف، بمواجهة العجز عن إيقاف آلة القتل الإسرائيلية، بما يمكنها من وضع أسس “ربيع ايراني اخواني”، يسمح لها بزعزعة الأمن والاستقرار في دول القرار العربي، وينتزع من هذه الدول الملف الفلسطيني وينسف سعيها لحل الدولتين.
والظاهر أن نتنياهو يساعدها في تحقيق هدفها من خلال تقاطع مصالح تنتج حرب الطرشان المتواصلة التي تشهدها المنطقة وعلى أكثر من جبهة.