حرب عالمية ثالثة.. إعلام أوروبا في كوكب آخر!
محمد قواص
من يراقب ما يشغل الإعلام في فرنسا سيكتشف مدى هامشية الحدث الأوكراني وعرضيته. وفيما العالم بشرقه وغربه مهتم بمستقبل السلم والحرب في العالم المهدد من حدود روسيا مع أوكرانيا، فإن الحدث ليس بالضرورة في العناوين اليومية للصحف في فرنسا وليس الموضوع الرئيسي للمناظرات التلفزيونية وما أكثرها على الشاشات الفرنسية المحلية والدولية.
والحق أن تهميش الحدث على خطورته ليس ظاهرة فرنسية. وعلى الرغم من أن الكارثة إن وقعت ستطال أوروبا التي عرفت في التاريخ قبل غيرها أوجاع الحروب العالمية، إلا أن إعلام أوروبا هو على منوال ذلك الفرنسي في سلوكه. صحيح أن أولويات محلية تحتل سلم الأهمية لدى الرأي العام، وخصوصا في فرنسا التي تشغلها الانتخابات الرئاسية المقبلة، غير أنه قد يكون لتلك البرودة المستفزَّة أسباب أخرى.
من راقب الإعلام الغربي عامة عشية حرب الكويت عام 1990 وحرب العراق عام 2003 سهل عليه ملاحظة احتلال الحدثين صدارة الاهتمامات دون أي منافس. والأحرى أن الدول التي قررت الانخراط في الأزمتين، سواء في المشاركة في الحرب أو رفضها والإعراض عنها، اندفعت لتعويم الحدثين وترقيتهما إلى مستوى محلي بهدف صناعة رأي عام يرفد قرارات الحكومات في هذا الصدد. مذاك بات المراقب يرصد بوصلة انخراط هذه الدولة أو تلك بهذا الصراع أو ذاك بناء على غياب الخبر أو حضوره وبأي لغة وترتيب في النشرات الرئيسية والمحلية.
وفق ذلك فهمنا قبل سنوات غياب الحدث السوري عن النشرات الرئيسية في فرنسا وبريطانيا وبقية الدول الأوروبية، لعدم الحاجة إلى صناعة رأي عام يقف وراء تدخل عسكري لاح عام 2013 للحظات قبل أن يتوارى إلى الأبد.
والأمر ينسحب على ملف الصراع مع إيران وملفات أمنية أخرى لا تحتاج إلى تجييش المجتمع باتجاهها ولا تحتاج أساسا إلى رأيه بها. صحيح أن ملايين خرجوا في الشوارع رفضا للحرب في العراق وحتى استنكارا لحروب إسرائيل وقضايا عالمية أخرى، إلا أن المظاهرات الشعبية، على ضخامتها النادرة في بعض الأحيان، لا يمكن أن تغير من مؤشرات الرأي العام طالما أن الماكينة الإعلامية تذهب تهميشا أو تجييشا نحو وجهات أخرى.
وعلى الرغم من حيوية الفرنسي إيمانويل ماكرون والبريطاني بوريس جونسون والألماني أولف شولتز داخل الحدث الأوكراني، إلا أن في غرابة انشغال الإعلام المحلي بقضايا روتينية أخرى (السياسة المحلية، تدابير كورونا، القوة الشرائية، توقعات التضخم.. إلخ) سعي لسحب الحدث الأوكراني من النقاش العام وجعله حصراً بين ذوي الخبرة والاختصاص لا يبت به إلا أصحاب القرار.
ولئن اشتكى الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي من الهلع الذي تنفخه العواصم الغربية وتأثيراته على الاستقرار في بلاده، فإن الأوربيين الذين يخشون على اقتصاداتهم المترنحة، حريصون على تجنيب أسواقهم فوضى الإشاعات والتهويل التي لا تحبها البورصات ولا تهواها المؤشرات.
على أن في انشغال باريس بما قاله هذا المرشح للانتخابات الرئاسية وما اقترفه آخر في عزّ الحديث عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة لم يخف الأميركي جو بايدن إثارة احتمالها، ما يطرح أسئلة بشأن حقيقة خطورة الحدث الأوكراني وجسارته. كما أن غياب قلق المواطن نفسه وعدم هرعه للسؤال عن تدابير الأمن والوقاية والدفاع وتخزين المواد الغذائية تحسبا لتلك الحرب المزعومة، يكشف ربما عن عدم استيعاب مجتمعي للسجال الجيوستراتيجي وعدم تصديق إمكانية نشوب نزاع يتجاوز سقوفا منضبطة منخفضة في حدودها المكانية والزمانية.
وفي موسم الانتخابات الرئاسية في فرنسا يكاد حدث أوكرانيا وصراع الغرب والشرق يغيب عن خطب المرشحين وحججهم وليس مادة ينهل من صخبها المتنافسون. والمسألة لا تكمن في أهمية الحدث، بل في قرار مغرض يهدف إلى ألا ينشغل الرأي العام باحتمالات الحرب، وتصويب اهتمامه بما هو حقيقي لا احتمال به. حتى أن في تهميش الإعلام للحدث الأوكراني بمعنى انزاله عن صدارة الحدث، ما يتناقض مع ما يصدر عن المنابر الرسمية الفرنسية، لا سيما وزارتي الدفاع والخارجية التي ما فتئت تكرر التحذير من حرب محتملة وتفرط بالتهويل بها.
وقد يتم التبرع بكثير من التفسيرات في تبرير ذلك الصقيع الإعلامي فوق حدث ملتهب. غير أن في ثنايا السؤال شعور بأن الأمر ملهاة بدأها فلاديمير بوتين وفق توقيت ويسدل الستار عليها وفق توقيت آخر. واللافت أن محادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو أكدت تلك الملهاة بحيث صبّ إعلام باريس اهتمامه على طاولة الحوار العملاقة البيضاء ومراميها والتهكم على مشهدها.
في الثنايا أيضا ما يستند على معطيات دقيقة حول ما يعرفه رجل روسيا من متاح ومن ممنوع بما يضخّ جرعات من الطمأنينة داخل الأداء الإعلامي، وهو أمر فهمه أصحاب المصالح والنفوذ وأوحت به وسائل الإعلام التابعة لهم والتي يراد دوما تسويقها حرة مستقلة عن نفوذ سلطات السياسة والبزنس وأجنداتها.
الحرب إن وقعت فهي كارثة أوروبية سوداء. ومع ذلك فإن إعلام فرنسا (على خلاف ذلك في ألمانيا مثلا) يقدم الحدث بصفته نزالاً حادا بين موسكو وواشنطن. بوتين يلوح ويلمح، بايدن بحذر ويتوعد. في هذا الوقت ينشغل البيت الفرنسي باتصال هاتفي أجراه الشعبوي الفرنسي المرشح للانتخابات الرئاسية إيريك زيمور مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ملتمسا من ذلك الاتصال بركة لا يبدو أن ترامب قد أنعم عليه بها.
تهميش الحدث لدى إعلام فرنسا يأتي للمفارقة متواكبا مع ظاهرة أخرى تستحق التأمل. الحرب خيضت، حتى الآن، عبر الإعلام. أفرطت واشنطن في وضع معلوماتها الاستخبارية تحت أضواء الإعلام كاشفة فاضحة بكل شفافية كل التحركات العسكرية الروسية. بدا للناس أن لا أسرار في تلك الحرب التي تكاد مداولات تجنُبها تُنقل على الهواء مباشرة. لا غرف سوداء، ولا خطوط تواصل حمر، ولا “ستار حديدي” يحجب الوقائع ويمحضها برومانسيات الغموض.
تلهى الإعلام الفرنسي قبل أيام بإعلان ماكرون انسحاب فرنسا وشركائها الأوروبيين من مالي. غير أن الأمر لا يشغل الرأي العام كثيرا، ذلك أن صعود ظاهرة زيمور ومراوحة اليمين المتطرف والوسط وتخبطه وهزال جيش المرشحين من اليسار وتدلل ماكرون في إعلان ترشحه أكثر إثارة من حرب نووية على الابواب.