حرب غزة والرهانات الكبيرة حسب السيناريوهات المحتملة… فهل تفتح الجبهة الشمالية؟
رياض قهوجي
طوفان الأقصى، العملية النوعية غير المسبوقة التي نفذها مقاتلو حماس ضد المعسكرات والمستوطنات الاسرائيلية في غلاف غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، هي واقعة ستدرس في الكتب العسكرية وستشكل منعطفاً تاريخياً سيرسم معالم المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط. فلقد أظهرت نضوج مقاتلي حركة حماس من مجموعات ثورية مسلحة الى جيش تحرير نظامي طبق قواعد الهجوم للقوات المشتركة – برية وجوية وبحرية – بشكل منسق مستخدماً تكنولوجيا بسيطة، انما حديثة، سخرت بفعالية لتأدية المطلوب منها بنجاح مبهر.
فالدروس المستقاة من حرب أوكرانيا حيث ظهرت الطرق المختلفة لاستخدام الطائرات المسيرة في توجيه ضربات دقيقة بقنابل صغيرة، استخدمها مقاتلو حماس لضرب أبراج الاتصال مما أدى لتعطيل منظومة القيادة والسيطرة الاسرائيلية. فلم تعد المعسكرات الاسرائيلية الصغيرة المنتشرة في محيط قطاع غزة قادرة على التواصل فيما بينها أو مع القيادة الجنوبية أو المركزية. وبقيت القيادة الاسرائيلية غير مدركة لما يجري في غلاف غزة لأكثر من ساعتين، وبالتالي لم تحصل الوحدات العسكرية الاسرائيلية هناك على أي دعم جوي أو إسناد ناري للدفاع ضد الهجمات المفاجئة لمقاتلي حماس.
كما أن عنصر المفاجأة كان ناجحاً لدرجة أن عدداً كبيراً من الجنود الاسرائيلين في معسكرات غلاف غازة لم تسنح لهم الفرصة لارتداء ملابسهم، حيث تم أسرهم وهم في الملابس الداخلية. كما أن بعض الدبابات التي كانت مكلفة توفير تغطية نارية لم تدر ماذا أصابها حيث دمرت بسرعة كبيرة إما بصواريخ كورنيت المضادة للدروع أو بواسطة قنابل ألقتها الطائرات المسيرة. وإحدى أشرطة الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي أظهر دبابة تحترق بينما فوهة مدفعها ما زالت مغلقة بالغطاء البلاستيكي لحمايتها من الرمال، مما يؤشر لعدم ادراك طاقمها بما يجري ولم تتسنى له فرصة اطلاق النار.
لا تزال العديد من التفاصيل غير متوافرة عن أسباب الاخفاق الاستخباراتي الاسرائيلي. وبعض النظريات تتحدث عن تمكن مقاتلي حماس من التواصل على موجات خاصة غير معروفة أو مرصودة من قبل العدو مما مكنهم من التحرك بسرية تامة رغم استخدام اسرائيل لمنظومات التنصة الالكترونية المتقدمة الني ترصد المكالمات عبر الأجهزة اللاسلكية. وبلا شك ستشكل القيادة الاسرائيلية لجاناً للتحقيق في أسباب الاخفاق الاستخباراتي مما قد يكشف عن الوسائل التي استخدمتها حماس للحفاظ على سرية التحضير للعملية وتنفيذها.
احتاجت اسرائيل لثلاثة أيام لتستعيد قواتها السيطرة على المستوطنات والمعسكرات في غلاف غزة ولتحشد الاحتياط تحضيراً لتنفيذ عملية اطلق عليها اسم “السيوف الحديدية.” ولقد أعلنت الحكومة الاسرائيلية الحرب على حماس ونيتها انهاء الوجود العسكري للحركة، مما يعني أنها تنوي تنفيذ اجتياح بري للقطاع. من الطبيعي أن تكون حماس قامت بالتحضير لسيناريوهات الرد الانتقامية لاسرائيل ولذلك قامت بأسر العشرات من العسكريين والمدنيين الاسرائيليين على أمل أن يشكل وجودهم في غزة عائقا أمام حدة التحرك العسكري الاسرائيلي. الا أن حسب اذاعة الجيش الاسرائيلي، فلقد قررت الحكومة الاسرائيلية المضي بالهجوم العسكري الشرس دون أي اعتبار لوجود الأسرى الاسرائيليين، مما قد يؤثر سلباً على حسابات حماس.
بلغ عدد القتلى الاسرائيليين حتى نهاية اليوم الثالث حوالي الألف بين عسكريين ومدنيين، بالاضافة الى أكثر من 2500 جريح. هذا العدد الكبير من الضحايا، خاصة بين المدنيين، زود اسرائيل بأداة اعلامية قوية لنيل تأييد مطلق وغير مشروط من أميركا وأوروبا للرد بشكل عنيف وشن اجتياح بري سيخلف آلاف القتلى والجرحى في صفوف سكان غزة بالاضافة الى الدمار الهائل في المباني والبنية التحتية للقطاع. ويتوقع أن تعمد اسرائيل الى شن غارات وقصف مدفعي لتدمير مباني وتطهير المحاور التي ستتقدم عليها الدبابات والآليات الاسرائيلية. ويتوقع أن تعمد اسرائيل للسيطرة على طول خط الحدود الفاصل بين القطاع ومصر للتأكد من إغلاق أي منافذ أو أنفاق يتم تهريب السلاح والامدادات عبرها لداخل غزة. كما ستعمد القوات الاسرائيلية للتقدم على طول خط ساحل غزة حتى الحدود المصرية لمنع تهريب أي شيء بحراً. ومن المرجح أن تشق الدبابات الاسرائيلية طريقها وسط غزة لتجزئة القطاع الى قسمين أو ثلاثة لتسهل عليها عملية تطهير كل جزء على حدة.
طبعا ستشهد شوارع غزة معارك شرسة بين القوات الخاصة والمشاة الاسرائيلية ومقاتلي حماس الذين سينصبون الكمائن ويشنون الهجمات المضادة، مما سيؤدي الى وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف الاسرائيليين. وهنا سيكون الامتحان الحقيقي لقدرة اسرائيل على تحمل الخسائر الى أن تنجز المهمة الموكلة لقواتها. وبدأت القوات الأمريكية بتنفيذ جسر جوي لتزويد القوات الاسرائيلية بما تحتاجه من ذخائر وأسلحة لتعويض ما ستستنزفه حرب غزة من مخزونها العسكري. ويتوقع أن تنشط الجمعيات الاسرائيلية في الخارج لجمع الأموال لمساعدة الاقتصاد الاسرائيلي الذي تلقى ضربة قوية جراء الحرب. كما ستستخدم الأموال لاعادة بناء ما تدمره ضربات حماس الصاروخية، بالاضافة الى شراء الأسلحة.
ما شهدته اسرائيل جنوباً كان عينة عما يمكن أن تواجهه على الجبهة الشمالية انما بشكل مضاعف بسبب قوة حزب الله هناك وامتداد الجبهة الى داخل جنوب سوريا حيث تنواجد فصائل أخرى تابعة للحرس الثوري الايراني. ولذلك عمدت اسرائيل الى اخلاء المستعمرات المحاذية لحدودها مع لبنان وقامت بنشر أكثر من مئة الف جندي من الاحتياط تحسباً لأي طارئ. كما قامت الولايات المتحدة بارسال للسواحل الاسرائيلية أكبر حاملات طائراتها، جيرالد فورد، مع مجموعة ضاربة تضم مدمرات وبوارج مسلحة بصواريخ جوالة ومنظومات أيجس المضادة للصواريخ الباليستية. وستوفر هذه القوة عند الحاجة اسنادا جويا وتساعد في الدفاع ضد أي هجمات بالصواريخ الباليستية في حال فتحت الجبهة الشمالية أو دخلت ايران على خط المواجهة بشكل مباشر. كما نشرت أمريكا 20 مقاتلة اضافية طراز اف-15 واف-35 في قواعدها في الشرق الأوسط لزيادة قدراتها الجوية.
التحرك الأميركي يظهر تصميم واشنطن على دعم حليفها الاستراتيجي في المنطقة، كما فعلت في حرب 1973 عندما أنقذت الجيش الاسرائيلي من هزيمة حتمية على يد القوات المصرية. وهي تنسق مع القيادات الأوروبية لتأمين ما تحتاجه اسرائيل من دعم دون التأثير على التزاماتها اتجاه أوكرانيا المنخرطة بحرب ضروس مع روسيا. فالراهانات كبيرة اليوم على نتائج الحرب في غزة. فاذا ما تمكنت حركة حماس من الصمود وفشلت اسرائيل من انهاء وجودها العسكري، فالحركة ستعتبر منتصرة وستحظى بالدعم الشعبي الذي سيجعلها تحل مكان فتح والسلطة الفلسطينية كالممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وهذا سيعزز من مكانة حليف حماس الاقليمي، ايران التي ستسيطر على ملف القضية الفلسطينية، وتنهي مفاعيل عمليات التطبيع القائمة بين اسرائيل وبعض الدول العربية.
أما اذا خرجت اسرائيل منتصرة من هذه الحرب وأنهت الوجود العسكري لحركة حماس في غزة والضفة الغربية، فانها ستجد الطريق معبدة أمامها لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية. لكن سيكون ذلك تحت قيادة حكومة اسرائيلية جديدة. فلقد أجمع كافة المراقبين في اسرائيل على أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبغض النظر عن نتيجة الحرب، قد انتهى سياسياً وأنه وحكومته سيدفعان ثمن الفشل الاستخباراتي وما جرى في غزة. ويرجح جميع المراقبين ولادة حكومة اسرائيلية جديدة اما نتيجة تحالفات جديدة أو انتخابات جديدة تكون خالية من اليمين المتشدد وأكثر قابلية للدخول في عملية تطبيع تشمل ايجاد حلول مقبولة دوليا وربماعربيا للقضية الفلسطينية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستسمح ايران بهزيمة حماس في غزة أم توعز لحزب الله والمجموعات المسلحة في سوريا والعراق للتدخل عبر الجبهة الشمالية لانقاذها من أجل الحفاظ على وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة التي تشكل أحد الأركان العقائدية للثورة الاسلامية الايرانية؟ حتى الآن حزب الله يتصرف على أنه لا ينوي فتح الجبهة الشمالية رغم بعض المناوشات اليومية على الحدود مع اسرائيل. لكن هذا قد يتغير ان كانت حساباته وطهران لا تتحمل خروج المقاومة الاسلامية الفلسطينية – حماس والجهاد لاسلامي – من المعادلة داخل الأراضي المحتلة. كما أن اسرائيل قد تختار أن تفتح هي الجبهة الشمالية بعد أن تنتهي من حرب غزة من أجل منع استمرار تنامي قدرات ايران وحزب الله على حدودها الشمالية وتستفيق يوماً على هجوم كبير أكثر فداحة مما واجهته في عملية طوفان الأقصى. الرهانات كبيرة وشرارة الحرب قد انطلقت.