حماسة سعيد وهدوء وزير الخارجية: توليفة تونس في مواجهة الضغوط
تسير الأمور نحو تعقيدات جديدة في ملف الهجرة وملف التمويل ما يزيد من الضغوط على تونس.
وفيما تقول تونس إنها تعمل ما في وسعها لوقف التدفق المتزايد لللاجئين، تتجه أوروبا للاتحاد حول فكرة المواجهة الأمنية الجماعية لمنع مرور لاجئين جدد، يما يعني أن الآلاف الذين كانوا يصلون إلى إيطاليا سيبقون في جنوب المتوسط، وبصفة أوضح سيعادون إلى تونس وعليها أن تتصرف معهم بالتوطين أو إعادتهم إلى دول العبور أو بحث صيغ لإرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية.
تواترت تصريحات أوروبية عن “الحصار البحري” للاجئين، وتحريك قوة فرونتكس وتفعيل مهمة صوفيا. لكن الأهم هو أن أوروبا تتجه للالتقاء حول خطة النقاط العشر التي عرضتها رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، وهو مؤشر على تغير في الأسلوب خاصة بعد التقارب الفرنسي – الإيطالي وتصريحات إيمانويل ماكرون وجورجيا ميلوني التي تظهر التوافق التام بشأن الهجرة.
تقول الصورة إن أوروبا تتحد في مواجهة الهجرة على قاعدة واضحة تقوم على أولوية الخيار الأمني على خيار الشراكات التي جربته لتشجيع دول الجنوب على إبداء موقف أكثر حزما ضد التدفقات. لكن النتيجة لم تكن مشجعة على الأقل من جانب تونس.
وقد زادت أعداد القادمين من تونس بعد اتفاق الشراكة الأوروبي – التونسي في يوليو، والذي قام على معادلة دعم مقابل حراسة أكثر حزما. لكن من الواضح أن للتونسيين حساسية تجاه مهمة الحراسة وهم يرفضون لعب دور شرطي المتوسط، وهو موقف واضح سبق أن عبّر عنه الرئيس قيس سعيد.
وبقطع النظر عن تقييم تجربة الاتفاق التي لم تصمد طويلا، أو بالأحرى لم يكن لدى الأوروبيين طاقة تحمل وقدرة على الانتظار خاصة بعد تقارير عن تضاعف أعداد القادمين من شمال أفريقيا وأساسا من تونس.
والسؤال الآن: هل سينفذ الأوروبيون تهديدهم باللجوء إلى الخيار الأمني كأولوية في التعامل مع تدفقات المهاجرين غير النظاميين. وماذا لو نفّذوا تهديدهم، وفرضوا حصار بحريا جديا ينتهي بإعادة كل من يحاول “الحرقة” من البلد المتوسطي الذي انطلق منه، أي تونس أو ليبيا، وهما البوابتان الرخوتان حاليا.
ليس هناك شك في أن أوروبا، ومع صعود اليمين وحصوله على الحكم في أكثر من بلد، لم تعد واقعة تحت هاجس الخوف من الجمعيات والمنظمات الحقوقية، وآخر همومها الالتزام بالضوابط الحقوقية خاصة في دول المقصد المباشرة.
وهذا يعني أنه لا تونس ولا ليبيا يمكن أن تراهن على البعد الحقوقي الأخلاقي في طرد المهاجرين، فهذه موضة قديمة. والجمعيات الحقوقية صارت متخصصة في نقد أخطاء دول جنوب المتوسط وتتبع تفاصيل تجاوزاتها، ويمكن أن يثيرها خبر مقتل خمسة أفارقة عطشا على حدود تونس وليبيا ولا يثيرها أن دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي تحوم شكوك كبيرة في أنها أغرقت سفينة وتسببت في مقتل العشرات من اللاجئين.
ماذا يمكن أن تفعل تونس لو نفّذ الأوروبيون تهديدهم بإعادة اللاجئين إليها، ليس إعادة التونسيين فقط بل الآلاف من الأفارقة الذين يعبرون أراضيها ومياهها البحرية؟ هل ستفرض عليهم البقاء في البحر، وهل تقدر على ذلك، هل ستؤويهم وتطعمهم بانتظار ترحيلهم، أم تعيدهم من حيث جاؤوا.
سيكون من المهم بالنسبة إلى تونس أن تستمر في الاتفاق مع الأوروبيين، وأن تلعب دورها إلى منتهاه في صد موجات المهاجرين سرا، وأن تنسّق أمنيا مع الوحدات الأوروبية فرديا وجماعيا وأن تكون جزءا من الحرب على المهرّبين، وليس لاعبا منفردا بأجندة خاصة.
ليس لدى تونس ترف البقاء على الربوة، وإطلاق التصريحات التي تتهم أوروبا بأنها مسؤولة عن الوضع الحالي بسبب تاريخها الاستعماري، وبسبب تهاونها حاليا في إسناد الدول الفقيرة جنوب الصحراء التي تعيش أزمات متعددة الأوجه سياسيا وأمنيا واقتصاديا.
المفاهيم والمفردات التي تتغنى بالموقف السيادي مهمة ولا شك، ولكنها تحتاج إلى جانبها دبلوماسية مرنة تزيل ما يعلق بتلك المفاهيم من تأويلات شعبوية توحي وكأن البلد منغلق على نفسه أو أنه قادر على الاستغناء عن شركائه الإقليميين، وهذا ما يحصل حتى لو كان البلد ثريا فما بالنا ببلد في وضع حرج يحتاج إلى تعدد مصادر الدعم والمساعدة للخروج من أزمته، أو على الأقل للتحكم فيها ومنع انزلاقه ليكون بلدا فاشلا.
صحيح أن الخطاب السيادي يجد له أنصارا كثيرين في بلد ما تزال تسيطر عليه أيديولوجيات قديمة، لكنه لا يستطيع أن يعمّر طويلا، وحين يصطدم بواقع خارجي معقد سيجد نفسه مجبرا على التراجع ولو تكتيكيا، وإطلاق خطاب آخر أكثر مرونة مثل خطاب وزير الخارجية نبيل عمار الذي تحدث به خلال زيارته إلى موسكو.
عمار قال إنه “ليس من تقاليد تونس الدبلوماسية رفض شريك لحساب شريك آخر” في تفسير لزيارته إلى روسيا قادما من الولايات المتحدة بعد أن حضر فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يعني أن تونس ليست مع أحد ضد آخر، لا مع موسكو ولا مع واشنطن، وإن كانت تريد التعامل معهما لعقد اتفاقيات اقتصادية، وخاصة حل أزمة التمويل وأزمة ندرة المواد الغذائية.
في الولايات المتحدة، لا شك أن وزير الخارجية التونسي قد سعى لفتح قنوات التواصل مجددا مع صندوق النقد الدولي، وهي خطوة ضرورية وعاجلة حتى وإن كان الوزير يضطر للاستدراك في كل مرة ليقول إن هناك خطوطا حمراء على الصندوق أن يستوعبها في تونس و”المتمثلة أساسا في احترام وضعية البلاد وضرورة الدفاع عن الفئات الهشة”.
الحقيقة أن نبيل عمار يضع هذه الخطوط الحمراء لنفسه حتى لا يبدو وكأنه يتحرك من خارج الخطة التي يضعها الرئيس سعيد، وأنه ملتزم بها تماما مع قناعته بضرورة السعي لاستعادة الحوار مع الصندوق كونه المدخل الرئيس لحل الأزمة المالية، ولذلك قال وزير الخارجية التونسية في موسكو “لم نقل يوما إننا قطعنا جسور التواصل مع صندوق النقد الدولي”.
ستتأكد أهمية صندوق النقد خلال الأسابيع القادمة حين تتضح ملامح تعامل الأوروبيين مع اتفاق “الشراكة الشاملة” بين الاتحاد الأوروبي وتونس، في ظل مؤشرات على أن وعود الأوروبيين بضخ قرابة مليار يورو مرهونة بنجاح تونس في مهمة وقف تدفقات المهاجرين، وليس كما تم تفسيره سابقا من أن حزمة الدعم تهدف إلى مساعدة تونس على الخروج من أزمتها الاقتصادية.
خلال ثلاث سنوات سعى الرئيس التونسي في اتجاهات مختلفة لحل أزمة التمويل، بتعبئة داخلية تقوم على التقشف والتوفير، وخارجية بالبحث عن شركاء مفترضين، لكن النتيجة أن الرهان على دائرة دون أخرى لا يحقق المطلوب. التعبئة الداخلية مهمة، لكن الثابت أن صندوق النقد هو البوابة الأقرب لحل مشكلة التمويل خاصة أن الدول التي كانت تراهن تونس أن تحصل منها على دعم مواز اشترطت بدورها أن يتم دعمها من بوابة الصندوق، أي أن لا حل خارجيا من دون المرور بالصندوق بما في ذلك الوعد الأوروبي.
لأجل هذا سيكون على تونس أن تعدل خطابها بشأن الصندوق حتى لو كان تصعيدها الكلامي ضمن لعبة نقل الضغط إلى الطرف الآخر وإظهار الحكومة التونسية في موقع قوة.