رهانات حزب العمال البريطاني
بهاء العولم
يُصعِّد حزب العمال البريطاني ضد حكومة المحافظين وكأنه يضمن الصعود إلى سدة الحكم إذا نجح في دفع البلاد إلى انتخابات مبكرة. ربما يستمد العمال ظنهم هذا من تأييد نواب أحزاب أخرى في البرلمان لموقفهم في رفض الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، ولكن هل يكفي هذا التأييد لفوزهم في الانتخابات المقبلة إذا ما جرت كما يأملون قبل نهاية العام الجاري؟
ربما يقف النواب الرافضون للخروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي إلى جانب حزب العمال في سحب الثقة من حكومة المحافظين الحالية، ولكن هل استعد حزب العمال لهذه الانتخابات بشكل يضمن له الفوز فيها؟
من الأفضل قراءة احتمالات نجاح أو فشل حزب العمال بمساعيه بعيدا عن استطلاعات الرأي. صحيح أن أحدث هذه الاستطلاعات تقول إن الحزب لن يحصل على الغالبية في الانتخابات المبكرة، ولكن علاقة البريطانيين بالاستقراءات قد ساءت كثيرا منذ استفتاء عام 2016. لم يعد البريطانيون يثقون بالتوقعات، ولم يعد كثيرون منهم يشاركون في استبيانات الرأي أصلا.
ربما نستدعي بعض المعطيات التي يبني عليها الحزب أحلامه لننظر إليها بمنظار الواقع وبعيدا عن الدعاية الانتخابية. أول هذه المعطيات هو وجود تيار قوي في البلاد، داخل الحزب وخارجه، يرغب في إلغاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولكن هل يمثل هذا التيار الأغلبية في أصوات الناخبين؟ وهل أعضاء حزب العمال كلهم على قلب رجل واحد في رفض الخروج؟
لا نذيع سرا عندما نقول إن العمال كانوا أكثر إصرارا على الخروج من المحافظين وحزب الاستقلال في بعض المناطق خلال استفتاء 2016، ثمة أعضاء كثر من هذا الحزب رفعوا الكؤوس انتصارا بنتائج الاستفتاء، وفرحوا بأن العمالة الأوروبية التي حلت محل البريطانية سوف ترحل وتعود إلى مواطنها قريبا.
قبل أن تعصف أزمة الخروج في البلاد خلال العامين الماضيين لم نسمع قادة حزب العمال يجاهرون برغبتهم في البقاء. زعيم الحزب، ذاته، كان حتى الأمس القريب يطالب رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي بالاستقالة ونقل الحكم له بوصفه القادر على إنجاز اتفاق الخروج، وليس بوصفه القائد الذي يريد إلغاء الخروج كلا وتفصيلا.
تبدل الحال بعد المؤتمر السنوي لحزب العمال عام 2018، وبدأت قيادته تنادي باستفتاء جديد يحول الخروج إلى بقاء. ربما واكب كوربين المزاج العام للعمال في هذا، ولكن ذلك لا يعني أن جميع أعضاء الحزب مؤيدون لهذا الخيار. ولا يعني أن تغيير موقف الحزب لم يهز صورته في أعين المتمسكين بديمقراطية استفتاء عام 2016.
يعرف كوربين ماذا يعني أن ترفض نتائج استفتاء 2016، ولهذا يطالب بالبقاء فقط إذا كان الخيار الثاني هو الخروج دون اتفاق. يسوق نظرية أن طلاق لندن وبروكسل دون اتفاق سيحمل نتائج كارثية للبلاد كي يبرر تراجع حزبه عن الخروج وهو يدرك أن الكثيرين ممن يؤيدون بوريس جونسون لا يحبونه، بل يساندوه لأنه تعهد بالخروج ولا يخشى تداعياته على البلاد.
ولا يستطيع كوربين المراهنة على المؤيدين للبقاء من خارج الحزب. فهناك من قرر العزوف عن الانتخابات أصلا، ومنهم من يريد البقاء ولكن ليس عبر وصول حزب العمال إلى السلطة. بالإضافة إلى فئة ثالثة ستخالف رغبتها وتدعم أي حزب يصر على الخروج لأنها لا تريد أن تتهم بانتهاك الديمقراطية في البلاد، ولا تريد أن تظهر بريطانيا أمام الاتحاد الأوروبي والعالم ضعيفة وعاجزة عن الخروج.
على الضفة المقابلة فإن أنصار الخروج الذين يلتفون خلف رئيس الوزراء بوريس جونسون لأسباب مختلفة، هم كثر أيضا. ومنذ الاستفتاء التاريخي قبل ثلاث سنوات وحتى اليوم لم تصدر أي إحصاءات تقول إن عدد المؤيدين للخروج قد تراجع عن 45 بالمئة من البريطانيين. هؤلاء فاعلون جدا في المشهد السياسي ويكفي أن نتذكر كيف صنع أكثر من مئة ألف بينهم حزبا باسم “بريكست” خلال أقل من ثلاثة شهور.
وبعيدا عن انقسام البريطانيين بين التأييد والرفض للخروج من الاتحاد الأوروبي، ثمة عوامل أخرى يمكن أن تؤثر على فرص حزب العمال في الانتخابات المقبلة. على رأس هذه العوامل يأتي التجييش الكبير لما يسمى بأصدقاء إسرائيل ضد كوربين والعمال عموما، بتهمة معاداة السامية التي تلاحق الحزب منذ سنوات. هذه التهمة التي خلقت انقساما داخل صفوف الحزب ودفعت بالزعيم العمالي إلى الاعتذار مرارا، كما دفعت بأعضاء من الحزب إلى الاستقالة بعد أن ضاقوا من تفشي معاداة السامية داخل الحزب.
المنافسة الشديدة من قبل حزبي الليبراليين الديمقراطيين والخضر ستؤثر على فرص العمال في الوصول إلى السلطة. الحزبان صعدا بشكل ملحوظ ويطمحان إلى مقاعد أكثر في البرلمان تفقد الحزبين الكبيرين، الأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة أكثرية تتفرد بصناعة القرار في البلاد.
خارجيا، ربما ينال كوربين وحزبه بعض الدعم من أنصار الاتحاد الأوروبي لأنه يميل إلى إلغاء طلاق لندن وبروكسل. لكن هذا الدعم سيكون في مقابل دعم أميركي وغير أميركي لأنصار الخروج من جهة، ولرافضي مواقف كوربين وحزبه من قضايا دولية مثل القضية الفلسطينية وحروب الشرق الأوسط، من جهة أخرى.
جملة العوامل الداخلية والخارجية التي تعيشها البلاد لا تبعث على التفاؤل بفوز حزب العمال في الانتخابات المقبلة، ولكن نجاح الحزب في إقناع نواب البرلمان الرافضين للخروج دون اتفاق بالتصويت على سحب الثقة من حكومة جونسون قد يكون مؤشرا إيجابيا.
سحب الثقة من حكومة المحافظين سيقود البلاد إلى انتخابات مبكرة قبل تنفيذ الخروج دون اتفاق أو بعده، وعلى حزب العمال أن يكون مستعدا للخيارين لأن خسارته الانتخابات المقبلة، لا تعني فقط خمس سنوات أخرى من الظل، وإنما تعني أن الحزب الأكبر في أوروبا بات الرجل المريض الذي يعيش على أطلال تاريخه.