زيارة بلينكن..الفرص والتحدّيات
بدأ وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن زيارتَه الأحدث ضمن سلسلة من الجولات الدبلوماسيّة، التي يكاد يضارع فيها جولات كيسنجر في العام 1973، مع فارق مهمّ وهو إظهاره الواضح وأحيانًا الفاضح لإسرائيل منذ أوّل زيارة أعقبتْ هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين أوّل المنصرم على قطاع غزّة.
ما هو الهدف الرئيس من زيارة بلينكن هذه المرّة، وهل هي بالفعل متعلّقة بإنهاء النزاع بين إسرائيل وحماس؟ أم أنّ واشنطن قد استشعرت خطرًا كبيرًا، يمكن أن يلحق بها وفي هذا التوقيت الحَرِج والحسّاس بنوع خاصّ؟
الذين استمعوا لبلينكن في اليوم الأوّل من رحلته توَقَّفوا طويلاً عند تعبيره الخاصّ بضرورة قيام دول المنطقة باستخدام نفوذها لضمان احتواء الصراع في غزة ووقف دائرة العنف التي لا نهاية لها على حسب تعبيره، وقد فاه بها بعد لقائه الرئيس التركيّ، رجب طيب أردوغان.
يَعِنّ لنا التساؤل في مواجهة تصريحات السيد بلينكن: “من الذي يتوَجَّب عليه في حقيقة الحال استخدام نفوذه، الدول العربية أم الولايات المتّحدة الأميركيّة؟
الدول العربية ذات النفوذ لم تقصّرْ في ممارسة أدوار التهدئة، والوساطة للإفراج عن الأسرى، وتقديم المساعدات الغذائيّة والدوائيّة للشهر الرابع على التوالي، كما لجأتْ إلى مجلس الأمن الدوليّ مرّات عدّة في محاولة يعرف القاصي والداني أنّها يائسة وبائسة لوقف إطلاق النار، طالما بقي هناك الفيتو الأميركيّ قائمًا وقادمًا للدفاع عن إسرائيل ظالمة دومًا غير مظلومة أبدًا.
أمّا الولايات المتّحدة فلا تزال عند موقفها المتمترس وراء مفهوم ضرورة قيام إسرائيل بما يلزم للقضاء على حماس مرّة وإلى الأبد.
هل جاءت رحلة بلينكن بالفعل بغرض التهدئة؟
الواقع يُكَذِّب هذا الادّعاء، ذلك أنّ نهار الأحد المنصرم، شهد نوعًا من المجازر البشريّة تجاه المدنيّين الغَزَّاويّين، ناهيك عن استهداف الصحافيّين والإعلاميّين العُزَّل إلا من كلمة الحقّ، ما جعل أهل غزّة يتكلّمون عمّا أسموه “غارات بلينكن”، باعتبارها الهدايا التي حملها الإسرائيليّون لهم.
بدا بلينكن مناقضًا لنفسه في تصريحاته، فعلى سبيل المثال تحَدَّثَ عن إسرائيل التي لا تريد التصعيد فيما يخُصُّ الجبهة الشماليّة، ومؤكِّدًا كذلك وجوب أن تكون مستعدّة للدفاع عن نفسها.
سَيّد الدبلوماسيّة الأميركيّة حكمًا يتحدّث عن الأوضاع في جنوب لبنان، واحتمالات المواجهة المفتوحة مع حزب الله، ولم يتطرّق كثيرًا لأسلوب الاغتيالات الذي عاودته إسرائيل، كما حدث مؤخّرًا في قلب بيروت، الأمر الذي يؤجّج نيران الرغبة في الانتقام، ما يقود لاحقًا إلى مزيدٍ من التصعيد وليس التهدئة.
لفت الانتباه في هذه الزيارة بنوع خاصّ، أنّها بدأت من تركيا وليس من السعودية أو مصر أو الأردنّ، الدول التي تحمل العبء الأكبر للقضيّة الفلسطينيّة منذ زمان وزمانَيْن، ما جعل الكثيرين يتساءلون عن السرّ وراء هذا النهج الجديد، وإن تذَرَّع السيّد بلينكن بأنّ أنقرة لديها علاقات جَيّدة مع حماس، حيث لا تعتبرها جماعة إرهابيّة، وكذلك مع إسرائيل.
غير أنّ ما تسَرَّبَ من أبوابٍ ماورائيّة ربّما يطلق مسارًا جديدًا للأحداث حول اليوم التالي لوقف الحرب، أي سيناريوهات من يقوم بالحكم في غزة، وكان القطاع فراغًا وخلوًا من البشر أصحابه الأصليّين، وبغَضّ النظر عن بقاء حماس أو ذهابها أدراج الرياح.
ما رشح حتى الساعة يفيد بأنّ واشنطن تتشاور مع تركيا، لبلورة نظام جديد في غزَّةَ من تيارات إسلامويّة معتدلة، تحلُّ محلَّ حماس، أي أنّه نفس التفكير الذي ملك على عقليّة باراك أوباما في سنوات ما عُرِف بـ”الربيع العربيّ”، وكأنّ هذا التّيّار الأيديولوجيّ الذي دعمتْه واشنطن بقُوّة وتسَبَّبَ في خراب ونكسة كبيرَيْن، لا تزال تعاني منهما دول المنطقة، يعاود الكَرّة
للعودة من الشباك بعد أن طُرِد من الباب.
في تصريحاته عبر المؤتمرات الصحافيّة، بدا بلينكن وكأنّ واشنطن رافضةٌ بالفعل لسيناريو التهجير القسريّ الذي تمضي إسرائيل سادرة في غَيّها تجاهه، وقد يكون هذا موقف الرئيس بايدن بالفعل، والذي عَبَّرَ عنه أكثرَ من مَرّة، غير أنّه يدرك تمام الإدراك أمرَيْن:
** الأوّل: الضغط العسكريّ الإسرائيليّ، الذي يدفع الغَزّوايّين يومًا تلو الآخر لمزيد من الانزياح إلى جهة الجنوب، ناحية رفح، ما يعني أنّ التهجير في مراحله الأولى يجري بالفعل على الأرض، وما عدا ذلك هو رطانة لغويّة لا معنى لها ولا طائل من ورائها.
** الثاني: السعي الدبلوماسيّ الحثيث الذي تقوم به الدبلوماسيّة الإسرائيليّة، ومن يدعمها من وراء الستار، لإيجاد صيغة ما لهجرة طوعيّة غَزَّاويّة إلى خارج أراضي القطاع من خلال تسهيل فرص السفر، حتّى لو كان الأمر بحجّة الانتقال المؤقَّت لحين تهدأ الأوضاع في القطاع، والعودة ثانية، أي هجرة مؤقّتة، في حين أنّ القاصيَ والدانيَ يعلم تمام العلم أنّها حجّة مزيَّفة فمن سيخرج لن يعود ثانية في أيّ يوم من الأيّام.
هل من مصلحة أميركيّة بنوع خاصّ تستدعي قيام بلينكن بهذه الزيارة المُطوَّلة وفي الأسبوع الأوّل بعد انتهاء موسم الإجازات في واشنطن؟
المؤكَّد أنّ ذلك كذلك، وهي مصلحة تدور في سياق براغماتيّ أميركيّ داخليّ، قبل أن يكون الهدف هو التهدئة، وليس إنقاذ الغزّاويّين.. هل من تناقض؟
الذين لديهم علمٌ من روح التضادّ الأميركيّة التقليديّة، يدركون أنّ واشنطن التي تدعم قيام إسرائيل بعمليّات انتقائيّة جراحيّة لاغتيال من تعتبرهم رموزًا للمقاومة، هي نفسها التي تخشى في الوقت الحاضر اتّساعَ رقعةِ القتال في الشرق الأوسط والخليج العربيّ، وكذا البحر الأحمر.. لماذا؟
ببساطة لأنّ هذا عام انتخابات رئاسيّة أميركيّة، وأكثر ما تخشاه أيُّ إدارة أميركيّة، جمهوريّةً كانت أم ديمقراطيّةً، الوحول في مستنقع عسكريّ جديد، يُفقِد ساكن البيت الأبيض فرص إعادة انتخابه، عطفًا على أنّ ملفَّ الأسرى لدى حماس، ومن بينهم أميركيّون لا يزال قائمًا، ما يُهدِّد بهواجس أسرى السفارة الأميركيّة في طهران العام 1980، الأمر الذي أدّى إلى خسارة الديمقراطيّ جيمي كارتر ولايتَه الثانية في مواجهة رونالد ريغان.
هنا تبدو واشنطن قَلِقةً من تصَرُّفات نتنياهو، والذي يرى في توسيع دائرة الحرب أفضلَ طريق للهروب من استحقاقات أزماته الداخليّة التي تُطبِق عليه من كلّ جانب، حتّى لو تكَلَّفَ الأمرُ إشعال المنطقة برُمَّتِها.
تخشى واشنطن كلَّ الخشية أن تجد ذاتَها بين عشِيَّةٍ وضحاها مجبرة على الخوض في حرب لم تذهب إليها راغبةً، وما انسحاب عدد كبير من قطعها البحريّة مؤخَّرًا، إلا إشارة منها تفيد بأنّها لا تسعى إلى التصعيد بحال من الأحوال عسكريًّا، لكنّ نتنياهو قد يغيّر الطباع ويبدّل الأوضاع على غير ما تهوى أميركا.
هل التحَدّيات أعقد من فرص الحلّ؟ يبدو الأمرُ يسيرًا لو وجدت الإرادةُ الأميركيّة، فالضغط على نتنياهو بكل الأوراق التي في يد واشنطن وهي كثيرة كفيل بأن يوقفَ إطلاق النار، وساعتها يبدأ الحديث عن الما بعديّات.