سياسة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط
د. عبد المنعم السعيد
الكتابات والتعليقات السياسية وغير السياسية على الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط عديدة وكثيرة وفيها الكثير من اللوم والصخب السياسي الذي اعتدته واشنطن في الماضي، ولكنه زاد أضعافا منذ تولي دونالد ترامب للمسؤولية في البيت الأبيض. والحقيقة هي أنه رغم شيوع الموضوع باعتباره نتيجة سياسات الرئيس الأمريكي الأخيرة بالانسحاب من شمال سوريا وتركها لتركيا، والآن لروسيا والحكومة السورية أيضا؛ فإن الواقع هو أن الانسحاب قد بدأ مبكرا منذ عهد باراك أوباما، ومبكرا في عهد ترامب نفسه، وأن حجم القوات الأمريكية في العراق وسوريا وقواعد أمريكية أخرى تراجع إلى حد كبير قبل الانسحاب الأخير. الأمر في عمومه لم يلق ترحيبا لا من القيادات الديمقراطية التي تسابقت على إضافة لوم آخر للرئيس، ولا من القيادات الجمهورية التي لم تجد في القرار حكمة تذكر، على العكس فإنه يؤدي إلى الدور الأمريكي القيادي في العالم وفي المنطقة أيضا وتسليمه تسليما لقوى أخرى مثل إيران وتركيا وبالطبع والأهم روسيا.
وفي مقال مهم لكيتي دافيدسون الباحثة في معهد دراسات الحرب بعنوان “عشرة عواقب للانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط” ذكرت أولا أنه مرة أخرى فإن واشنطن لن تكون قادرة على متابعة إرهابيين يخططون هجمات خارجية على أمريكا من سوريا؛ وثانيا أن “داعش” سوف يعود مرة أخرى خاصة بعد استغلاله فوضى الغزو التركي للشمال السوري للهروب من السجون والمعتقلات. وثالثا أن “داعش” ليس وحده في الصورة الإرهابية لأن “القاعدة” هو الآخر آخذ في التوسع في اتجاه الشمال الغربي لسوريا. ورابعا أنه من المرجح أن تركيا هكذا سوف تدخل في حرب مع “داعش” خالقة وضعا إنسانيا مؤلما. وخامسا أن تركيا، ربما تحقيقا لأحلام تاريخية، سوف تحتل شمال شرق سوريا لفترة طويلة. وسادسا والظروف هكذا فإن الحرب الأهلية السورية سوف تشتعل مرة أخرى؛ حيث تجد جماعات المعارضة المختلفة للنظام السوري نوافذ كثيرة للعون التسليحي والعسكري. وسابعا أن الأكراد الذين يبدون كخاسر أكبر من الخيانة الأمريكية ربما لا يجدون أمامهم إلا المشاركة في توسيع القضية الكردية لكي تشمل الإقليم كله. وثامنا أن الاحتجاجات العراقية الجارية حاليا ضد الحكام والأحوال في العراق سوف تتضعف الحكومة العراقية ومن الممكن انتشارها إلى إيران ذاتها. وتاسعا أن الاحتمالات سوف تتزايد في أن تأخذ إسرائيل خطوات جريئة ضد إيران خاصة بعد أن تقوم الأخيرة برفع الحجب عن تطوير سلاحها النووي. وعاشرا أن روسيا في إطار من منافستها للولايات المتحدة سوف تدفع الرواية التي لا تقول إن الولايات المتحدة لا يمكن الاعتماد عليها.
هناك مقالات ودراسات كثيرة بالطبع، ولكن ربما كانت “العواقب العشرة” في حقيقتها نقاط تحدد أطر الموضوع وأبعاده المختلفة. وللأسف فإنه بالنسبة لنا فإن هناك القليل الذي يمكن الإشارة له في النظر إلى خطوة مهمة لدولة عظمى في الانسحاب من المنطقة. وقد اعتدت السؤال في كل محاضرة ألقيتها في الولايات المتحدة، وعادة ما يكون قرب نهاية اللقاء “ما الذي تستطيع الولايات المتحدة أن تفعله؟”. واعتدت أيضا الإجابة والتي أبدأها بالعودة إلى ملحمة موسيقية يعرفها معظم الأمريكيين بعنوان “عازف الكمان على سطح المنزل Fiddler on the Roof “. ولمن لا يعرف فإن هذا الأوبريت الموسيقي يعود إلى كتاب جوزيف ستين “تيفي بائع اللبن وقصص أخرى”، ويحكي عن بائع اللبن تيفي اليهودي، الأب لخمسة بنات، كل واحدة منها لها حكاية تأخذها بعيدا عن التقاليد اليهودية التي يراها الأب مصدر التوازن والبقاء للأسرة. ولكن الأعراف الاجتماعية الجديدة في زمن القياصرة الروس؛ حيث تجري الأحداث في عام ١٩٠٥، جعل الدولة هي الأخرى تقلب حياة الرجل رأسا على عقب. هذا الكتاب تحول إلى أوبريت موسيقي كتب كلماته شيلدون هنريك ووضع موسيقاه جيري بوك، وذاع صيته خلال السبعينيات من القرن الماضي وتحول إلى فيلم سينمائي. ولكن ما كان مهما بالنسبة لي عند طرح السؤال عما تستطيع الولايات المتحدة فعله أن أردد عبارة قالها الأب تيفي “اللهم أعطي القيصر عمرا مديدا، ولكن اجعله بعيدا عنا!”
كانت تلك هي دوما إجابتي على السؤال أننا نتمنى للولايات المتحدة كل خير، ولكن أفضل ما تفعله بالنسبة لنا هي أن تبقى بعيدة عنا، ولا تفعل شيئا على الإطلاق، خاصة في أوقات الأزمات التي من المرجح أن وجود الولايات المتحدة فيها سوف يقلبها إلى مأساة بائسة. كانت الإجابة دائما صادمة للنظارة الأمريكيين، فالأمريكي يتصور دائما أن العالم يحتاج له بدرجة أو بأخرى، ولن ينسى الأمريكيون أبدا أنهم أنقذوا العالم من طغيان القيصر الألماني في الحرب العالمية الأولى، ومن النازية والفاشية والعسكرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، ولا حقيقة إنقاذهم لأوروبا واليابان بعد هذه الحروب لكي يكون في هذا الإنقاذ إنقاذا للاقتصاد العالمي. ولكن في عصرنا الحالي فإن ثمانية عشر عاما من الوجود الأمريكي في أفغانستان انتهى بنا إلى أمة منقسمة توجد فيها “طالبان” في أكثر من نصف مساحة البلاد، ولا يزال “القاعدة” مضافا له “داعش”، وحزمة أخرى من التنظيمات الإرهابية قائمة. كما أن الوجود والتدخل الأمريكي بأشكال مختلفة خلال ثلاثة عقود في العراق خلق أولا فراغا كبيرا استخدمته إيران في مد نفوذها في العراق؛ وثانيا تمدد القاعدة و”داعش” وجماعات إرهابية أخرى إلى الداخل العراقي. وثالثا أن نتيجة الغزو الكامل الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ انتهى إلى تفكيك الدولة العراقية في نظام للحكم يجد صعوبة كبيرة في إحياء الدولة العراقية مرة أخرى. وأخيرا فإن الوجود الأمريكي في سوريا للحرب ضد “داعش” أسهم بقدر في سقوط “دولة الخلافة” ولكنه من ناحية أخرى حتى قبل الانسحاب أعطاها قبلة الحياة مرة أخرى عندما جرت خيانة الأكراد وتسليم سوريا للاحتلال التركي، وإقامة مناطق للنفوذ الإيراني والسوري داخل الدولة السورية.
لن نتحدث عن مناطق أخرى كانت هناك سلبيات كبيرة لدخول الولايات المتحدة فيها، كما كانت هناك سلبيات أخرى ساعة انسحابها، وربما آن الأوان للعالم العربي أن يعود إلى طاولة التخطيط الاستراتيجي مرة أخرى للتعامل مع واقع ليس فيه الولايات المتحدة الأمريكية، سواء كان ذلك لأن أمريكا تتراجع عن مكانة الدولة العظمي، أم أن دونالد ترامب فعلا لا يحب “التورط” الخارجي، أو أن الشعب الأمريكي الذي انتخبه قد بات يرفض “المغامرات الخارجية”، ويريد عودة “الأولاد” إلى البلاد. الدول العربية لا بد لها من “استراتيجية عليا” تبدأ من حقيقة أن العالم بات ثلاثي الأقطابن مع الولايات المتحدة كلا من الصين وروسيا، وأن أقلهم فاعلية في الوقت الراهن مهما كانت الأسباب هي الولايات المتحدة. والحقيقة الثانية أن هناك حالة من الفراغ الاستراتيجي نجمت عن “الربيع العربي” المزعوم من ناحية، ووهن أوروبا بسبب “البريكسيت” وأسباب أخرى من ناحية أخرى. والحقيقة الثالثة أنه مع أهمية التعامل مع الواقع الدولي، وتشجيع روسيا والصين على القيام بسياسات فعالة فإنه لا يوجد بديل للعمل من أجل تعاون استراتيجي عربي فعال يهدئ من الصراعات والحروب الجارية، ويبث التماسك في البلدان الثائرة، ويخلق توازنا للقوى مع القوى الإقليمية الأخرى. الأمر في الأول والآخر يحتاج إلى تفكير جديد.